“في نقد الذهن المعارض” وهو في الحكم

0 66

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

وجدتني أعود إلى ما أنا فيه من جرد حساب نكسة الحكومة الانتقالية إلى فكرة لي قديمة لي هي أننا لا نحسن نقد النظم الديكتاتورية التي نطيح بها في نهاية الأمر. ولا نحسن أيضاً كذلك تثمين ونقد النظم التي نستبدلها بها. وهذه بتلك. فلما ارتجلنا نقد النظم المستبدة ارتجلنا نقد نظمنا المستجدة. وبدأت نقدي لما سميته ب”الذهن المعارض” خلال فترة النميري. وواصلت السيرة خلال فترة الإنقاذ حتى سموني ب”معارضة المعارضة”. ولبيان هذه البعد في ممارستي السياسية أنشر أدناه جزء من مقدمتي لكتابي “عبير الأمكنة” (١٩٨٨). سترة وصلحة.
هذه كلمات نشرتها في باب اسبوعي بجريدة (الصحافة) في الفترة الواقعة بين مارس ويونيو 1980م. وقد رأيت في إعادة نشرها مساس أكثر معانيها ما يزال بحاضر ومستقبل السياسة والثقافة في السودان.
عنوان الكتاب (عبير الأمكنة) هو المجاز الذي اتفق لي لوصف رائحة التاريخ في الغبار الذي خلفته معاول الهدم التي أعملها نميري في مؤسساتنا وقيمنا الوطنية. وكانت النميرية نظاماً محكماً في احتقار ذهن وتجربة ومنشآت وطننا. وأسباب هذا الجفاء كثيرة. من ذلك مجيء الأفراد المستنيرين من طاقم النميرية الحاكم إلى الحقيبة الوزارية أو غيرها وهم أسرى مشاريع وحيدة الجانب. فلربما وقع المشروع لأحدهم في أروقة الدراسات العليا بالخارج، أو في وحشة الدار بعد تفرق الشلة الهايصة. وهي مشروعات استبدت بهم استبداداً كبيراً. وهذه المشروعات غالباً ما عبر أصحابها عنها بمقالة وحيدة في الصحف السيارة لفت أولاد الدفعة اليها نظر نميري فتبنى أصحابها وزراء وزارات أو دولة في حكومته. ولم يخطر لهم أن يستعينوا على هذه المشروعات بالحوار لأن أصلها في الهواجس المتفردة الطليقة التي لا يقيد النقاش سلطانها. وإزاء سلطان الفكرة الكاملة غابت عن هؤلاء الأفراد خصائص الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومعضلاتها. وفات عليهم الالمام بقوانين نشأتها وتطورها. ولذا اتسم اداء النظام بميل واضح لتقويض بناء السلف لأن طاقمه الحاكم قد جاء بما لم تبتدعه الأوائل، ويريد أن ينقش اسمه في التاريخ بمآثر خصاله له.
وفاقمت الذهنية المعارضة لنميري من جفاء هذا الوضع الفكري الجافي. فقد اتخذت من وقائع تقويض النميري للأبنية الوطنية مناسبة للتأجيج السياسي المحض. وترتب على ذلك أن نسجت هذه المعارضة حول المؤسسات المقوضة هالة من الحنين معروفة بالنوستالجيا في الافرنجية. وهذه النوستالجيا عنصر غالب في الرومانسية السياسية التي هي سمة في معارضة نميري. وقد شملت ضمن ما شملت الخرتيت، رمز جمهورية السودان فيما قبل 25 مايو 1969م الذي استبدله النظام النميري بصقر الجديان.
ولننظر إلى ما انتهى اليه معهد بخت الرضا التربوي في ظل مثل هذه النوستالجيا. فقد اضحى مؤسسة تبكي عدوان نميري عليها وتبالغ في الاحتفالات بمرور كذا عام على تأسيسها. وهو بكاء واحتفال حصنها من النظر الفاحص الدقيق في جدواها في ظروف متغيرات التعليم والذوق السكني. فالواضح مثلاً أن التربويين من هذا الجيل لا تستهويهم الفكرة القديمة التي رمت ببخت الرضا في خلاء النيل الابيض. ويريدون-مثلهم مثل غيرهم-أمن العاصمة البشعة. وانشغلت هذه المعارضة بالتأجيج العام بديلاً عن النظر في دقائق هذا الهدم النميري. والنظر في هذه الدقائق ربما كان هدى الفئات المعارضة إلى أسلوب أو اخر من أساليب الدفاع عن هذه المؤسسات حتى في ظل النظام المستبد. ولم يكن مستبعداً إنقاذ تلك المؤسسات، أو إنقاذ ما يمكن انقاذه من مكوناتها، من غير انتظار لزوال النظام اولاً.
وأعظم فوائد مثل هذا النظر والعمل المطلوبين هو ارساء التأجيج المعارض العام على الحس بالملاحظة والرصد والاستقراء، وسداد الاستنتاج. وهذا كفيل بان يوطن الذهن المعارض-متى انفرجت أوضاع البلد السياسية-في مثل هذا الاداء الفكري الراشد الذي لا يمكن إعادة بناء الوطن بغيره.
وباكتفاء المنهج التأجيجي بتسجيل معارضته كمآخذ سياسية في غاية العمومية، وبميل واضح للفضح السياسي، فقد ادار ظهره لعناصر المقاومة الباطنية التي دافعت عن مؤسساتها بالظفر والناب لمنع النظام النميري من تحويلها إلى خرائب. ولقد استعانت تلك العناصر على ذلك بذكاء كثير في الفعل ورد الفعل والتعبير وتفادي التعبير وفي الافصاح والصمت. ولم يكن الذهن المعارض بحاجة إلى هذه التضاريس المقاومة لقلة شأنها. فقد كان في شغل بالفضح، وتبرئة الذمة والتلمظ بـ(ألم أقل لكم) الدالة على امتلاك مطلق للصواب. وانظر في صحفنا تجد هذا الذهن المعارض مازال معنا. فإذا زار صحفي مؤسسة خاسرة، وهو غالباً ما يتجه إلى مثل هذه المؤسسات الخاسرة وما أكثرها، لم يجد في جعبته غير عبارات (الكارثة، الانهيار، التردي) وذلك لأننا لم نتعلم بعد النظر المحيط والتقاط اشكالات أبنيتنا الوطنية في جدلها.
كتبت هذه الكلمات مساوماً. كتبتها في صحيفة هي لسان حال الحزب الفردي الحاكم، الاتحادي الاشتراكي سيء السمعة. وكانت المعارضة الرسمية لنميري لا ترى بشكل عام صواب الكتابة في مثل هذه الصحيفة لالتزامها الحرفي بسياسة النظام (رضينا أو أبينا). وفي هذا الموقف صواب كثير وخطل كثير أيضاً. فالتزام الصحيفة بسياسة النظام وحجرها على كل نقد له مما لا يحتاج إلى بيان. غير أن هناك مساحة للحركة ماتزال، ولا ينبغي أن تُلغى جزافاً. ولنتذكر أن الحركة الثقافية، الرازحة مثل غيرها تحت ترسانة القوانين المعادية للحريات، واصلت في الصحف المؤممة تطوير أفضل تقاليدها وهو الصفحات والملاحق الثقافية والادبية. وقد بلغ هذا التقليد الغاية على يد عيسى الحلو ود. محمد عبد الحي ويوسف عايدابي وحسن موسى. وبهذا فقد كتبت هذه الكلمات في الحيز الذي سمح به النظام. بالأحرى كتبت هذه الكلمات في الحيز الذي يفرضه بإطلاق صدور صحيفة ما حتى على نظام موسوس مثل نظام نميري.
وكتبت هذه الكلمات معارضاً في المعاني التي ذكرتها آنفاً. وهي معارضة استهون خطرها المعارضون المعتمدون لنظام نميري. وخطرها عندي أخطر لأن ثمارها هي الثمار المؤكدة التي نحملها معنا كتقليد فكري بعد زوال الطغيان لنستعين به في إعادة بناء الوطن في مثل الذي نحاول الآن. وهو تقليد يقوم على تنمية الحس بالملاحظة، والنفاذ إلى الدقائق بالكشف المحيط للظاهرة للوقوف على نطاح الجدل فيها. وهذا التقليد شرط أول في معرفتنا بقسمات الوطن واعلان باكر محبتنا له. ومن شأن هذا الاداء الفكري أن يتنزل بمعارضتنا من خفوق الشعار إلى رؤوس التفاصيل الشائكة الملهمة، وان ينقلها من التباكي إلى الفعل. وسيغيرنا هذا تغييراً كبيراً حين يحررنا من قلة الحيلة المستعان عليها بشراسة التعبير إلى العبير المزلزل، المغير فالمنجز. وحينها تكون الكتابة شفاء في الوطن لا تشفياً منه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.