“حال تونس: محور الشر وأهله بين سعيد والمرزوقي”

0 98

كتب: د. عمرو حمزاوي 

.

على تهافتها، ليست مصطلحات أهل الشر ومحاور الشر التي يلصقها اليوم، من جهة، الرئيس التونسي قيس سعيد بمعارضيه الذين يصنفهم في خانات الأعداء الفوضويين والمتآمرين على المصالح العليا لبلاده، وتصم بها، من جهة أخرى، الحركات والشخصيات المعارضة لسعيد إجراءاته وأفعال الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة له، ليست بمجهولة الهوية أو بنادرة الحضور في سياقات نظم الاستبداد والحكومات السلطوية وفي مراحل فشل التحولات الديمقراطية.

كان اليهود الألمان والأوروبيون هم «أهل الشر» الذين وصمتهم النازية بالتدني، وألحقت بهم طيفا واسعا من التوصيفات العنصرية من «الرائحة الكريهة» مرورا «بشهوة المال وسلوكيات المرابين» إلى «الخيانة والتآمر» ونشر «الانحطاط الأخلاقي» والفساد. حملت النازية اليهود الأشرار مسؤولية إخفاق «الجنس الآري» في الاضطلاع بحقه الطبيعي في قيادة العالم، وعزت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) إلى «مؤامرة عالمية» لليهود استهدفت تدمير «الحضارة الألمانية» ومعها هدم الدولة والمجتمع، وربطت «الخلاص» بالنصر النهائي على اليهود الذي عرف كإبادة شاملة.

ولأن النازية جاءت كنتاج للنزعات العنصرية والأفكار المعادية للسامية التي مثلت في بدايات القرن العشرين مكونا أساسيا للثقافة السائدة في ألمانيا، لم يكن مفاجئا أن يلصق باليهود الأشرار كل المكروه شعبيا من خصائص فسيولوجية متوهمة بجانب كل المرفوض شعبيا من صفات وسلوكيات متوهمة أيضا. في عالم النازية، للذكر اليهودي جسد يجمع بين البدانة وقصر القامة، ووجه له أنف مقوس وعينان جاحظتان، وجميع ذلك على النقيض من «الرجال الآريين» أصحاب الأجساد الفارعة والأنف الصغير والأعين الزرقاء والفحولة الذكورية (تماثيل آلهة اليونان والمحاربين الأبطال في الإمبراطورية الرومانية كانت مصدر توصيف السمو الفسيولوجي للرجال الآريين). أما الأنثى، ولأن المرأة في الأفكار العنصرية والمعادية للسامية هي «منبع الشر والخطر» فخصائصها الفسيولوجية تجمع بين ما صنفته النازية قبيحا (كالقوام القصير والأعين السوداء) وما اعتبرته غواية (كالشعر أحمر اللون في استدعاء للصور النمطية عن الساحرات اللاتي حرقتهن الكنائس في العصور الوسطى).

وفيما بعد، استنسخ نهج النازية العديد من نظم الحكم الفاشية والمستبدة والسلطوية التي بحثت عن «أهل الشر» الذين يتهمون دوما بالخيانة والتآمر وتعطيل المسيرة ويحملون بمسؤولية الهزائم والإخفاقات عوضا عن مساءلة ومحاسبة الحكام، ووجدت ضالتها إما في معارضي الداخل أو في القوى الإقليمية والدولية المناوئة. وفي السياقين الداخلي والخارجي، تجاوز تعريف ووصم «أهل الشر» الصفات والسلوكيات المرفوضة شعبيا إلى الخصائص الفسيولوجية المكروهة شعبيا.

هكذا وصمت الأحزاب الشيوعية الحاكمة في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية (حتى الانهيار في نهاية ثمانينيات القرن العشرين) الكتاب والمفكرين والمبدعين المتمسكين بحرية التعبير عن الرأي «كأعداء الشعوب» وكمنشقين يتآمرون مع الرأسمالية العالمية (الشر الأعظم) لإسقاط التجارب الشيوعية، وألصقت وهما بالمنشقين الأشرار في الأعمال الفنية خصائص فسيولوجية مذمومة كالبدانة والشراهة وصنوف الإدمان لتبيان التناقض بينهم وبين «الإنسان الشيوعي» (الإنسان السوفييتي) الرياضي والمتحكم في رغباته والواعي صحيا لشخصه ولدوره في المجتمع (المختزل إلى عجلة الإنتاج).

وعلى ذات الدرب سارت الفاشيات العسكرية-الأمنية ونظم الاستبداد والسلطوية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، ولم تحد عن نهج تعيين ووصم «أهل الشر» بلاد العرب وبقية الشرق الأوسط. وعبرت إيران ما بعد الثورة الإسلامية (1979) عن التوظيف الأشمل للمصطلح الذي طال الولايات المتحدة الأمريكية كالشيطان الأكبر، ومعارضي الداخل والمطالبين بالديمقراطية والمدافعين عن حقوق الإنسان كأعوان الشيطان الأكبر، وإسرائيل والوهابيين كشيطانين يستدعيان أو لا يستدعيان وفقا لظروف السياسة وعلاقات القوة. وفي البروباغاندا الرسمية للجمهورية الإسلامية، ألحقت بالمسؤولين والسياسيين الأمريكيين الكثير من صفات وسلوكيات أهل الشر اليهود في عالم النازية، بل وبعض الخصائص الفسيولوجية المتوهمة. ولم تكن ثنائيات جورج بوش (2000-2008) إما «معنا أو ضدنا» و«تحالف قوى الخير في مواجهة محور الشر» الذي يمثله الإرهاب والتطرف سوى الدليل القاطع على قابلية الديمقراطيات في لحظات استثنائية للوقوع في كارثة استخدام مصطلحات متهافتة كأهل الشر ومحور الشر.

وإذا كان الرئيس التونسي قيس سعيد يعتزم استخدام هذه المصطلحات وتطوير توجهاته الإقصائية باتجاه تصنيف معارضيه الرافضين للسلطوية الرئاسية والمطالبين بالديمقراطية والمدافعين عن حقوق الإنسان كأهل شر وإذا كان المعارضون من المخلصين للمبادئ الديمقراطية كالرئيس الأسبق منصف المرزوقي سيواصلون وصم إجراءات سعيد وداعميه الإقليميين والدوليين بالشر أيضا، سيصبح من المرجح اشتداد وضعية الاستقطاب الراهنة في تونس وتفاقم التراجعات الديمقراطية باتجاه الفشل التام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.