الإدارة الأهلية صمام أمان الريف: الأمان أمان الله
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
صدر في ١٧ فبراير ٢٠٢٢ بيان حول تنصيب عباس حسن الكابس أميراً على عموم الحسانية. ولمّح البيان إلى مناهضة “بعض الأطراف” من الجعليين هذا التنصيب. ونفى البيان أن تكون خطوتهم هذه سياسية وإنما هي الأمر الواقع ردوا بها الأمر إلى بيت آل كاسر الذي له الأمر فيهم.
وكتب آخر منبها إلى فساد فكرة هذه الخصومة بين العرب الرحل وأهل القرى من الجعليين على النيل حول أرض جرداء. واستعجب أن تخرج لهذا الغرض الهين المسيرات والمواكب الهادرة من الطرفين صوب حكومة الولاية وحكومة الخرطوم، وتُقدم العرائض والدعاوي والشكاوى، ويرتفع الدعاء إلى عنان السماء بالنصر المؤزر، وتعلو الحناجر بالهتاف “حقنا كامل وما بنجامل”. وما أثار عجب الكاتب أن يتباغض الجيران هكذا حول أرض جرداء بينما توارد الخبر في نفس الوقت عن استيلاء مليشيا الدعم السريع على ربع مليون فدان بنفس الجهة بمشاركة إسرائيل.
وكان ورد نبأ سابق عن هذه الواقعة قال إن نظارة الجعليين رفضت تنصيب أمير الحسانية بمنطقة الحقنة بمحلية المتمة بولاية نهر النيل. ودعا فيه الناظر محمد إبراهيم حاج محمد لإيقاف مؤتمر أزمع الحسانية عقده لغاية مطلبهم بالأمارة “حقناً للدماء وحفاظاً للنسيج الاجتماعي”.
ماذا يفهم القلم الحكومي والسياسي والصحافي في المدينة من هذه المواجهة؟ سيقول لك “نزاع قبلي”. وتفوت بمثل هذا القول مسألتان على هذا القلم. أولها كيف اتفق له أن الإدارة الأهلية هي صمام أمان الريف كما تجري العبارة حيال نزاع منذر بسفك الدماء كما لوح ناظر الجعليين؟ أما المسألة الثانية فهي: ما موضوع هذا “النزاع القبلي” الذي نصف به مثل مواجهة الجعليين والحسانية؟ هل ثمة موضوع من وراء هذا النزاع، أم أنه مجرد إفراز من إفرازات البداوة وجهالاتها، أم أننا لا نعرف ولا نريد أن نعرف؟
لماذا طلب الحسانية الأمارة؟ والأمارة هي مسمى الإنقاذ ل”الناظر” استلهمت فيه المهدية وهي ترتب لتجييش بعض القبائل، من العرب خاصة، ضد خصومها من “الزرقة” في الجنوب ودارفور. فكانت المهدية سمت زعماء القبائل أمراء رايات لقبائلهم المُهجرة إلى أم درمان. فسمت عوض السيد ود القريش، من أسرة نظارة الكبابيش، أميراً عليهم في أم درمان مثلاً.
وقعت مواجهة الجعليين والحسانية وأنا شارع في كتابة مقدمة لمخطوطة عن شعب اللحويين بشرق السودان. واسترعى انتباهي أنهم طلبوا النظارة لقرن ونيف طوال فترتي حكم الإنجليز والاستقلال ولم يحصلوا عليها إلا في ٢٠٢٠. واتفق لي بعد وقوفي على صراع اللحويين الطويل للنظارة أن أسمى المطلب بالنظارة ودوافعه ب”بولتيكا النظارة”. وهي سياسات تطعن في أكبر حجج وجود الإدارة الأهلية وهي أنها صمام أمان الريف. وهي أو الفوضى. فبدا لي واضحاً للعيان أن هذه السياسات انتجت ظلامات مؤسسية وقعت على جماعات عكرت عليهم عيشهم، بل وضرجته بالدم. ولن تجد طعناً لزعمنا أن الإدارة الأهلية هي صمام الريف كمثل حقيقة إن القيادات الأهلية هذه، التي توسمنا فيها العقل والكياسة، هي التي تدير حروب النظارة بينها بلا رحمة كما رأينا.
فالنظارة هي الوظيفة التي تتمتع بها القبائل التي تقيم في دار مملوكة لها تاريخياً دون الأخرى التي تعيش في كنفها. وأحسن من صاغ قانون النظارة ناظراً لمركزية تملك الدار في استحقاقها هو ناظر الهدندوة في كتاب عن الحياة والإدارة بشرق السودان بالإنجليزية. فقال أذا امتلكت جماعة ما سعية ورجالاً فصح أن تقوم عليهم عمودية، ولكن بغير أن تكون لها دار تاريخية فلا مطمع لها في النظارة. فالنظارة كما جرى تقنينها في نظم الإدارة الأهلية على عهد الإنجليز وظيفة سياسية (بالقدر المحدود منها الذي سمح به الإنجليز) حق حصري لزعيم القبيلة صاحب الدار تخضع لها الجماعات المستضافة في داره بصور مختلفة. وهي من الأعراف السودانية التقليدية القليلة التي دخلت في صناعة الإدارة الأهلية بيد الإنجليز.
وينظم علاقة خضوع الجماعات المُستضافة لناظر القبيلة صاحبة الدار علاقة معروفة ب”التبع” (client tribe). ووجدت أفضل تقنين للتبع في العهد الاستعماري في حكم صدر من القاضي كفن دي سي هيز في خلاف نشب بين الكبابيش والهواوير عام ١٩٥٣. فلم تكن للهواوير دار تاريخية كمثل الكبابيش الذين استضافوهم فيها. ولكنهم طالبوا في وقت لاحق بالمنطقة شمال الخط الريدة – الصافية، المرخ، أم سنيطة، والتي يحدها من الغرب الخط الذي يصل أم سنيطة ببئر النطرون، وألحوا في اقتطاعها من دار الكبابيش، وإعلانها داراً لهم بحق تملكهم واستعمالهم لها منذ مطلع القرن العشرين. وحين نظرت المحكمة في دعواهم ردتهم إلى ” التبع”.
ونجد في حكم المحكمة أفضل صياغة للمقصود من ” التبع”. فمن حق القبيلة التابعة الرعي والسقيا في دار القبيلة المضيفة على أن يدفع كل فرد من ” التبع” شاة في كل عام (شاة الحوض) مقابل سقياه لسعيته. ومسموح للقبيلة التابعة الزراعة في الدار مقابل دفع “الشراية” لشيخ القبيلة صاحبة الدار. “والشراية” ضريبة عينية مقدارها ثلاثة أمداد عن كل ريكة (والريكة ثلاثون مداً أي أربع ونصف كيلة). وتمتنع القبيلة التابعة أن تحفر “سانية” وهي البئر العميقة الواصلة الحجر، كما لا يسمح لها بوضع وسمها المميز على الأشجار، أو حجارة الجبال فيما حولها، أو أن تضرب نحاسها في مدى الدار. وبناء على ما تقدم فـ” التبع” معادلة بين ما تفقده القبيلة من شروط استقلالها وبين ما يتسنى لها من تمتع بإمكانيات وميزات دار القبيلة الأصل.
إذا كانت الإدارة الأهلية مواطنة من الدرجة الثانية في البلد قياساً بمواطنة الحضر ف”التبع” هي المواطنة الثانية في المواطنة الثانية نفسها. فيخلق التبع مواطنتين: واحدة “قبلية” مميزة بعُرف تاريخي ولها رتبة النظارة لتملك الأرض حيث هي، وأخرى “تابعية” لا تسمن ولا تغني من شيء. فالجماعة التبع تخضع لعلاقة استعمار داخلي، لو شئت، تُفرض عليها الضرائب بينما تتجرد من صوتها السياسي حتى في نطاق عيشها اليومي. ولذا كان مطلب القبيلة التبع للنظارة، بدار أو بدونها، بمثابة “حركة وطنية” للخلاص من استعمار مالكي الدار. ولم يغب هذا المعني عن ناظر اللحويين في حفل تنصيبه. فقال إن يوم منحهم النظارة التي جاهدوا قرناً ونيفاً للحصول عليها بمثابة تحرر وطني وعيد للاستقلال.
انطوت الإدارة الأهلية التي وضعها الإنجليز على مظالم مؤسسية لجماعات سودانية كثيرة تضرج نزاعها لرفع الظلم عنها بالدم. ويصبح، والحال هكذا، كل قول على أن الإدارة الأهلية هي سعادة الدارين للريف قول غير مسؤول. أقله!
وفاصل ونواصل.