كتب: تاج السر عثمان
1. دراستنا لدور المرأة وارتباطها بالمجتمع لا تقتصر فقط علي حصاد الفكر النظري العام الذي درس الجذور التاريخية لقضية المرأة ، ولكن منهج الماركسية ، لابد أن يغوص بنا لمعرفة واقع وخصوصية تطور المرأة السودانية ، وذلك أن دراسة واقع المرأة السودانية وتطورها لاينفصل عن تطور المجتمع السوداني ، لأن التقدم الاجتماعي يقاس بتقدم النساء ودرجة اسهامهن في تطور ورقي المجتمع ، كما أن دراسة تطور المرأة السودانية لاينفصل عن تحليل المجتمع ودراسة التفاوت الطبقي والاجتماعي والتنوع في سبل كسب العيش وتطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج ، وتوضيح التقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء ، والنظر في الجذور التاريخية لتهميش المرأة ، ومتابعة الأشكال الثقافية التي تكرس التمايز بين الرجال والنساء ، فلا يكفي ، أن نشير فقط الي العوامل الاقتصادية لاستغلال المرأة واضطهادها ، بل لابد من الاشارة للعوامل المكملة الثقافية والاجتماعية التي تسهم في اعادة انتاج اضطهاد المرأة .
بدون التقليل من أهمية وحصاد الفكر النظري الذي درس الجذور التاريخية لتطور واضطهاد المرأة مثل : مؤلف انجلز (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) ، وكذلك ماتوصل اليه علم الانثروبولوجيا المعاصر وما اكده علي أهمية الدراسة الميدانية المستقلة لكل مجتمع ، وكذلك ظهور الحركات النسوية بمدارسها المختلفة ، وما توصلت اليه الدراسات المتخصصة حول المرأة وقضايا النوع ، كل ذلك مفيد ، ويوضح لنا الزوايا المختلفة لقضية المرأة ، ويشكل لنا خلفية ضرورية ، ولكن ذلك لايعفينا من بذل الجهد المستقل للتعرف علي خصوصية تطور المرأة السودانية ، وبهدف الاسهام في الفكر النظري العالمي من خلال تجربتنا المحلية وفي تفاعل واخذ وعطاء متبادل ، فدراسة حصاد الفكر النظري ليس بديلا لدراسة خصوصية وتاريخية تطور المرأة السودانية ، وبذل الجهد المستقل الذي يشكل جوهر الفهم المادي للتاريخ لمعرفة الاوضاع التاريخية التي تجلت فيها تهميش واضطهاد المرأة السودانية ودرجة اسهامها في تطور المجتمع. وهذا الموضوع يحتاج لمزيد من تسليط الضوء عليه ، لأن دراسة ومعرفة الواقع والجذور التاريخية لاضطهاد المرأة هو شرط لاغني عنه لتغييره ، في صراع ثقافي طويل النفس.
2 . بنظرة عامة لتطور المرأة السودانية ، نلاحظ الآتي :
– السودان كغيره من اقطار العالم مر بالفترات التاريخية نفسها التي بدأت بالعصور الحجرية ، كما أوضحت الحفريات التي قام بها علماء الآثار ، وبالتالي عرف المجتمعات المشاعية البدائية التي كانت تقوم علي الصيد والتقاط الثمار ، وكان التقسيم الاجتماعي للعمل ، كما اوضحت تجارب معظم الشعوب يقوم علي :
– الرجال ينصرفون الي الصيد أو القنص. والنساء ينصرفن الي التقاط الثمار والحيوانات الصغيرة غير المؤذية ، اضافة للأعمال المنزلية وتربية الأطفال وصناعة الفخار والأواني المنزلية وصناعة النسيج أو الملابس من الصوف أو جلود الحيوانات.
وباكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات في حضارة المجموعة (أ) ، (ج) ، ظهرت الحضارة وعرفت القبائل السودانية القديمة ظاهرة تقديس الأم ، كما عرفت نظام الأمومة الذي عرفته شعوب أخري وأديان كانت قائمة علي عبادة الهات الخصب ، وهو نظام ارتبط بالدور الذي لعبته النساء في اكتشاف الزراعة.
وكانت البنية الاجتماعية في المجتمعات البدائية تقوم علي الملكية الجماعية لوسائل الانتاج ، ولم تعرف الفوارق الطبقية والفوارق بين الرجال والنساء ، ولم تعرف الدولة ولا الجيش .
كانت مملكة كرمة علامة فارقة في تطور الحضارة السودانية ، فقد قامت أول دولة سودانية ، ونشأ جهاز دولة يتكون من : الكهنة ، الموظفين ، السياسيين ، وظهر أول انقسام طبقي يتلخص في طبقة الحكام والكهنة والموظفين والملاك ، وطبقة اصحاب الحرف ، المزارعين ، الرقيق.
وبظهور مملكة كرمة بدأت تنحسر أو تتقلص الملكية المشاعية للارض التي كانت سائدة في حضارتي المجموعة (أ) ، (ج) ، ومنذ تلك اللحظة بدأت تظهر عدم المساواة بين الرجال والنساء ، وبدأ الرجل يتفوق علي المراة من زاوية التفاوت في ملكية القطعان وملكية المحصول، وأصبح دور المرأة يقل تدريجيا في النشاط الاقتصادي في المجتمع ، واستمر هذا الاتجاه يتعمق مع تطور الدولة والانقسام الطبقي في حضارات نبته ومروى والنوبة المسيحية والممالك الاسلامية (الفونج ، دارفور ، المسبعات ، تقلى..) حتي يومنا هذا من تاريخنا الحديث.
كما عرفت المرأة العادات الثقافية الضارة منذ السودان القديم ، مثل : الخفاض الفرعوني ، الشلوخ ، .. الخ.
كما كان للمرأة دور هام في الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية والحربية منذ مملكة مروى(الكنداكه) ، وفي المراحل التاريخية المختلفة.
وفي مجتمعات الرق مثل: مملكة الفونج ، عرفت المرأة نوعين من الاضطهاد: اضطهادها كعاملة ، واجبارها علي المضاجعة القسرية.
كما تطور زى المرأة في تلك الفترة من الرحط لغير المتزوجين الي الثوب الذي ترجع جذوره الي تلك الفترة ، والذي نبع من البيئة السودانية . هذا اضافة الي ظهور مؤسسة البغاء التي اشار اليها انجلز في مؤلفه( أصل العائلة..)، والتي ترتبط بخروج المرأة من الإنتاج المادي ، وكان معظم تجار الرقيق في تلك الفترة يقومون بتأجير الجوارى للبغاء ، كما شهدت تلك الفترة التحول لنظام الأبوة .
كما كانت المرأة في سلطنة دارفور وما زالت حتي الآن تلعب دورا هاما في النشاط الاقتصادي والاجتماعي والديني .
3 . وفي فترة الحكم التركي ارتبط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي من خلال تصدير العاج والصمغ ، وبدأ يظهر التعليم المدني الحديث والقضاء المدني ، كما شهدت البلاد دخول خدمات التلغراف وادخال البواخر النيلية . وكان لهذه الاوضاع الجديدة انعكاسها علي تطور المرأة ، فقد شهدت الفتاة السودانية بذور التعليم الحديث من خلال مدارس الارساليات التي فتحها المطران كمبوني للبنين والبنات ، اضافة الي تعليم فن الطبخ والخياطة والتطريز .
كما ظهر في هذه الفترة نظام الحريم (الحجاب) الذي كان سائدا في الدولة العثمانية والبلاد التي كانت تتبع لها ، والذي كان يرى في المرأة اداة لمتعة الرجل وراحته الجسمانية واداة لحفظ النسل(حاجة كاشف : الحركة النسائية في السودان ، 1984م) .
كما استمرت العادات السابقة (الخفاض ، الزآر ، غلاء المهور .. الخ) . كما انتشرت بيوت الدعارة والبغاء التي كان يديرها بعض التجار والذين كانوا يحققون ارباحا كثيرة منها ويتهربون من تسديد الضرائب ، كما أشار سلاطين باشا في مؤلفه : “السيف والنار في السودان”.
وفي هذه الفترة تم ضم الجنوب (المديريات الجنوبية) الي السودان ، والتي كان بها عادات واعراف واحوال شخصية تختلف عن احوال المسلمين والمسيحيين . كما عرف الجنوب تعدد الزوجات (بدون تحديد) ، مع التفاوت في نظم العائلة، والتقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء والدور الكبير الذي تقوم به المرأة في العمليات الزراعية والاعمال المنزلية وقطع الغابات واعداد الطعام ورعاية الاطفال .
وفي جبال النوبا كان للمرأة دور كبير في التقسيم الاجتماعي للعمل: النسيج ، الزراعة ، كما تشارك في العمل التعاوني (النفير) سواء باعداد الطعام أو صنع المريسة أو بالمشاركة في العمليات الزراعية في تنظيف الأرض وعمليات البذور والحصاد … الخ.وكذلك الحال في منطقة الانقسنا.
فترة المهدية : جاءت فترة المهدية التي اصدرت قوانين منع خروج المرأة للشارع (حجر النساء) ، حجاب النساء ، جلد النساء اللائي يخرجن كاشفات الرؤؤس . كما اصدرت قوانين . لتخفيض نفقات الأعراس ، كما تم منع الرقص والحفلات والغناء ، .. الخ، ولكن المهدية فشلت في حجر النساء ، فقد خرجت المرأة للنشاط التجاري ، فالمرأة اصلا كانت عاملة في : الزراعة ، التجارة ، بناء المساكن ، الغزل والنسيج ، وكانت الضرورات الاقتصادية تفرض علي المرأة خروج المرأة للعمل ، وقام الخليفة عبد الله بتنظيم مكان للنساء في سوق ام درمان ، والمدن الأخرى . كما لعبت المرأة دورا هاما في الثورة المهدية.
فترة الحكم الانجليزي – المصري : ثم بعد ذلك جاءت فترة الحكم الثنائي التي تميزت بظهور حركة تعليم المرأة (الحديث) ، وخروج المرأة للعمل في النظام الحديث (في البداية: مجال التعليم والصحة، ثم اتسعت مجالات عمل المرأة فيما بعد). كما ظهرت التنظيمات النسائية (الاتحاد النسائي عام 1952م). ساهمت المرأة في الأحزاب السياسية والنقابات .
طرح الاتحاد النسائي في أول برنامج له : حقوق المرأة في التعليم والتثقيف ومحاربة الخرافة والعادات الضارة والمطالبة بالحقوق السياسية والاجر المتساوي للعمل المتساوى(كان مرتب المرأة يساوى اربعة اخماس مرتب الرجل)ة، والاهتمام بالطفل . كما نجح الاتحاد النسائي في عام 1954م، في الحصول علي حق النساء في التصويت للبرلمان وشاركت في انتخابات 1954م ، خريجات الثانوى والجامعة والمعاهد . كما طرح الاتحاد النسائي ضرورة اخذ رأى الفتاة في الزواج ، وصدرت صحيفة صوت المرأة لسان حال الاتحاد النسائي التي كانت تحارب العادات الضارة مثل : الخفاض الفرعوني والمشاط ولبس ملابس الحداد وغلاء المهور ،.. الخ. كما شارك الاتحاد النسائي في مقاومة قانون النشاط الهدام ومصادرة الحقوق الديمقراطية عام 1953م. اسهم الاتحاد النسائي في انشاء عدد من المدارس الأولية للبنات ومدارس اوسطى وقامت فروعه في مدن السودان المختلفة . كما تقدمت المرأة في الحياة الاجتماعية وساهمت في النشاط الثقافي والفني والأدبي.
4 . بعد الاستقلال: شاركت المرأة في ثورة اكتوبر 1964م، وانتفاضة مارس- أبريل 1985 ، وثورة ديسمبر 2018 ،وانتزعت المرأة حق الانتخاب الذي قررته أول وزارة بعد الثورة وفازت فاطمة احمد ابراهيم كأول امراة سودانية تدخل البرلمان في دوائر الخريجين . وفي عام 1965م ، تم تشكيل لجنة لمراجعة اجور ومرتبات العمال والموظفين ، ما يهمنا هنا ، أن تلك اللجنة أوصت بتطبيق مبدأ الأجر المتساوى للعمل المتساوى للرجل والمرأة علي حد سواء (طبق في مجالات الطب والتمريض والتدريس) ، ولم يطبق في جميع الوظائف الا في عام 1972م ، واستمر الوضع حتي اشتراك المرأة في القوات النظامية والسلك القضائي والدبلوماسي والتوسع في التعليم العالي (الاحفاد ، الجامعة الاسلامية ،.. الخ). ارتفاع عدد الطالبات في الجامعات (علي سبيل المثال كانت نسبة الطالبات في الجامعات عام 2000م 48%)، وفي بعض الكليات مثل الطب والهندسة جامعة الخرطوم بلغت النسبة 65%. ارتفعت مساهمة المرأة في النشاط السياسي والثقافي والفني والمسرحي والدبي والرياضي. قاومت المرأة المرأة الانظمة الديكتاتورية (عبود ، نميري ، الانقاذ)، وتعرضت للقمع والاعتقال والتعذيب والفصل التعسفي من العمل ، والهجرة للخارج.
كما شهدت تلك الفترة اهتماما عالميا بقضية المرأة(المواثيق الدولية) مثل : الاجر المتساوى ، التمييز في التعليم ، الحقوق السياسية لمرأة، سيداو 1979م ، مؤتمر بكين ، سيداو الاختياري 1999م.
صارعت المرأة ضد النفوذ السلفي لتجريد المرأة من مكاسبها التاريخية مثل : محاولة فرض الحجاب عليها والعودة بها لعصر الحريم ، .. الخ). كما عانت من مشاكل الحروب والنزوح والاغتصاب ولاسيما في حرب دارفور، اضافة لمعاناتها في المهن الهامشية( الشاى، الاطعمة .. الخ) من المطاردة والقمع . كما عانت النساء من التجنيد الاجباري لابناءهن . اضافة للقهر والجلد . كما صدر قانون الاحوال الشخصية لعام 1991م لتكريس اوضاع التخلف للمرأة . ولكن رغم قهر الانقاذ الا أن المرأة شقت طريقها في مختلف الميادين. كما دفعت ظروف الحرب والفقر والتشريد باكثير من النساء للعمل ، كما كثرت حالات الطلاق للاعسار ، واتسعت ظاهرة سجن النساء والولادة داخل السجون (اطفال مواليد السجون) . كما اتسعت اعداد المراكز ومنظمات المجتمع المدني التي سلطت الاضواء المختلفة علي قضايا المرأة من زوايا مختلفة وتعددت اشكال تنظيمات المراة وكانت الحصيلة اهتمام واسع ومتنوع بقضية المرأة وهذا يشكل معلما بارزا في مسيرة المرأة السودانية.
ويؤكد واقع وخصوصية تطور المرأة السودانية أن الصراع الثقافي مازال شاقا ، لأنه من الصعب تغيير تقاليد وثقل التكوينات الاجتماعية التي تكونت لالآف السنين بين يوم وليلة ، وكما يقول ماركس : (ان تقاليد كل الأجيال الميته تجثم مثل كابوس على دماغ الاحياء)، وعلى سبيل المثال لابد من تنمية عادات ثقافية طويلة النفس ، نواجه بها عادات مثل الخفاض الفرعوني والذي اكدت التجربة أنه من المستحيل ازالته بقرارات بين يوم وليلة.كما ان عملية تحرير النساء يقوم بها النساء انفسهن ، وعملية تحرير المجتمع كله بنساءه ورجاله من الاضطهاد الطبقي والاثني والثقافي ، هو طريق شاق طويل تشترك في تحقيقه المرأة والرجل ، كما أن حركة تحرير المرأة ليست ضد الرجل. علي انه مازات هناك تحديات كثيرة ومطالب يجب تلبيتها لتحقيق المساواة الكاملة بين المرأة والرجل في السودان.
أهم المصادر والمراجع
1- انجلز: أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، موسكو، 1972م.
2- الاشتراكية المرأة(مجموعة من الكتاب) ، ترجمة جورج طرابيشي 1971م.
3- تونى كليف : نقد الحركة النسوانية ، ترجمة أروى صالح، تقديم فريدة النقاش ، كتاب الاهالي ، ديسمبر 1991م.
4- تاج السرعثمان : تطور المرأة السودانية وخصوصيتها ، دار عزة ، 2007م.
5- حاجة كاشف بدري : الحركة النسائية في السودان ، الخرطوم ، 1984م .
6- فاطمه احمد ابراهيم : حصادنا في عشرين عاما (بدون تاريخ).
7- فاطمه بابكر محمود : المرأة الافريقية بين الارث والحداثة ، 2002م.