أبو سليم: أن تسكن إلى السودان . . . لا فيه (٢-٣)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تعود هذه المقالة إلى منتصف العقد الأول من القرن تطرقت إلى نزاع المعاليا والرزيقات المضرج حول الدار والنظارة في ١٩٦٥ كما عرضه محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه “الشخصية السودانية”.
قامت بين المعاليا والرزيقات في دارفور علاقة للتبع بين الرزيقات سيدة الدار والمعاليا الضيفة على الدار. ولم تكف المعاليا عن مساعيها للخروج عن هذا التبع على بينة استحقاقها لأرض عاشت فيها لقرن أو يزيد. وردتها أعراف الدار عن مطلوبها. وهي الأعراف التي أخذت بها الإدارة الأهلية كما اصطنعها الإنجليز في آخر العشرينات. وتفجر الخلاف أول ما انتبهنا إليه في ١٩٦٥ بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤ التي أغرت بتوجهها لديمقرطة الريف مظاليم الإدارة الأهلية لعرض مسألتهم في الفضاء العام. وكان صدام المعاليا والرزيقات دموياً ضرج شوقنا الثوري من أكتوبر. ولم نستبن الدوافع من ورائه: نزاع قبلي نزاع قبلي.
ولكن محمد إيراهيم أبو سليم، ما تنشلالو، كتب عن ذلك الصدام من واقع خبرته المباشرة به كعضو في اللجنة التي كونتها الحكومة آنذاك للتحقيق في الواقعة. ونشرها فصلاً في كتابه “الشخصية السودانية” (١٩٧٩). وما زلت أطرب للكتاب الذي جاءنا بزاوية غير مطروقة في دراسة الشخصية السودانية التي من حقائقها أيضاً الاختلاف حول مصالح مادية مباشرة لا مجرد حول كوشيتها أو عروبتها.
رأينا في الجزء الأول من هذا المقال كيف نظر أبو سليم لصراع الجماعتين كتناقض بين مقتضي الحداثة وأعراف الريف التليدة. فبينما اقتضت الحداثة والمواطنة أن تستقل المعاليا بدار لا تباعة فيها حرمها نظام الإدارة الأهلية من مطلبها المشروع هذا بأعراف الدار التي تجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. وقال أبوسليم إن هذا التناقض حق ولا يمكن مداراته ولا يصح لنا ذلك. وشبه مجتمعنا بصبي ظل يكبر على قميصه ويفتقه يوماً بعد يوم بينما يصر والده أن الفتوق عابرة ويجدي فيها الرتق. وحذر من حياكات الفتوق الموضعية بدلاً عن أخذ الجسد النامي فوق محابس قمصانه القديمة بالدرس والجدية.
بين 1976 ، يوم صدر كتاب المهدية والأرض للدكتور محمد إبراهيم أبو سليم، و1979 ، يوم صدر له كتاب في الشخصية السودانية اكتسب أبوسليم علماً مختلفا جداً بمسألة الأرض وملكيتها في البادية. فلم تلفت دقائق ملكية الأرض في البادية أبو سليم وهو يكتب عن المهدية لأنه ظن أرض البوادي خلاء شاسع مترام الأطراف لا وجه فيه للنزاع على التملك. ولكنه عاد للمسألة بعلم جديد استمده مما وفرته له عضويته في لجنة دراسة أحوال الإدارة الأهلية في آخر الستينات. فقد اتاحت له هذه التجربة أن يقف ميدانياً على مبادئ تملك أرض البادية. ورأى علي الطبيعة أن اتساع الأرض لا يعطل غريزة الملكية ولا شرعها. وكان مما توقف عنده أبو سليم طويلاً مفهوم الدار العرفي ومدى مناسبته لمقتضى المواطنة في الدولة الحديثة في “الشخصية السودانية”.
كنت قد أخذت على أبي سليم في سفره الحسن الأرض في المهدية أنه قال إن المهدي لم يجبه مسألة ملكية الأرض إلا حين بلغ النيل من بعد كردفان. فقد مال المهدي في كردفان، في قول أبو سليم، إلى الدعوة لالغاء ملكية الأرض أو الحد منها لسعة الأرض بها. ولكني رأيت أن المهدي جبه، وهو ما يزال بكردفان، ملكية الأرض بنمطها الرعوي كما تجسدت في مفهوم “الدار” وما اتصل به مثل “تبريد الدار” و”التبع” وشروطه.
فقد أذاع المهدي مفهوماً للأرض في منشور قال فيه أن “لا يتشاجر إثنان في طريق الزرع ولا يدعي أحد وراثة الأرض من آبائه ليأخذ عنها خراجاً أو يقيم بها من هو ساكن بها”. وتوجيه المهدي هذا يتحدى مفهوم الدار الذي عليه مدار ملكية الأرض في البادية. فبين الكبابيش يقوم مفهوم الأرض على “تبريد الدار” وهو حيازة الأرض بحد السيف، وجعلها مثلجة لصدر من استبسل لتلك الغاية. وهذا التبريد هو أصل مشروعية قيادة النوراب، بيت الشياخة في الكبابيش، إلي يومنا هذا. ويجيز هذا المفهوم لصاحب الدار أن يستضيف جماعات أخرى بصفة “التبع” له.
وأفضل صيغة لأعراف الدار والتبع ما جاء في حكم للقاضي الإنجليزي هيز عام 1953 رد به شعب الهواوير عن طلبهم دار لهم مقتطعة من أرض يزعم الكبابيش ملكيتها. وأجاز حكم هيز للقبيلة المستضافة الرعي والسقيا في دار مضيفهم على أن يدفع كل فرد منها “شاة” الحوض كل عام للسقيا. ومتى زرعت الجماعة التبع في الدار دفعت “الشراية” وهي ضريبة عينية مقدارها 3 أمداد عن كل ريكة. والريكة 30 مداً أي 4 أربع كيلات ونصف، أي عشر المحصول. وتمنع الأعراف الجماعة التبع المستضافة من حفر بئر “سانية” اي البئر العميقة الواصلة الحجر، كما لا يسمح لها بوضع وسمها المميز على الأشجار أو صخر الجبال بالدار، أو أن تضرب نحاسها في مدى الدار. ولذا كان التبع علاقة مهينة يفر منها أهل الريف فرار السليم من الأجرب. وكل هذا في حكم هيز.