أبو سليم: أن تسكن إلى السودان . . . لا فيه (٣-٣)

0 73
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تعود هذه المقالة إلى منتصف العقد الأول من القرن تطرقت إلى نزاع المعاليا والرزيقات المضرج حول الدار والنظارة في ١٩٦٥ كما عرضه محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه “الشخصية السودانية” (١٩٧٩).
بين ١٩٦٧، يوم صدر كتاب المهدية والأرض للدكتور محمد إبراهيم أبو سليم، و١٩٧٩ ، يوم صدر له كتاب في الشخصية السودانية اكتسب أبوسليم علماً مختلفاً جداً بمسألة الأرض وملكيتها في البادية. فلم تلفت دقائق ملكية الأرض في البادية أبو سليم وهو يكتب عن المهدية لأنه ظن أرض البوادي خلاء شاسع مترام الأطراف لا وجه فيه للنزاع على التملك. ولكنه عاد للمسألة بعلم جديد استمده مما وفرته له عضويته في لجنة دراسة أحوال الإدارة الأهلية في آخر الستينات والتحقيق في واقعة صدام دموي بين شعبي المعاليا والرزيقات في ١٩٦٥. وتفجرت من طول شكوى الأول من خضوعه لسلطان الثاني لأحكام في شريعة الإدارة الأهلية قضت بذلك. فقد اتاحت تلك التجربة لأبو سليم أن يقف ميدانياً على مبادئ تملك أرض البادية. ورأى علي الطبيعة أن اتساع الأرض لا يعطل غريزة الملكية ولا شرعها. وكان مما توقف عنده أبو سليم طويلاً مفهوم الدار العرفي ومدى مناسبته لمقتضى المواطنة في الدولة الحديثة في “الشخصية السودانية”.
كنت قد أخذت على أبي سليم في سفره الحسن الأرض في المهدية أنه قال إن المهدي لم يقارب مسألة ملكية الأرض إلا حين بلغ النيل من بعد كردفان. فقد مال المهدي في كردفان، في قول أبو سليم، إلى الدعوة لالغاء ملكية الأرض أو الحد منها لسعة الأرض بها. ولكني رأيت أن المهدي جبه، وهو ما يزال بكردفان، ملكية الأرض بنمطها الرعوي كما تجسدت في مفهوم “الدار” وما اتصل به مثل “تبريد الدار” و”التبع” وشروطه.
فقد أذاع المهدي مفهوماً للأرض في منشور له وهو بكردفان قال فيه أن “لا يتشاجر إثنان في طريق الزرع ولا يدعي أحد وراثة الأرض من آبائه ليأخذ عنها خراجاً أو يقيم بها من هو ساكن بها”. وتوجيه المهدي هذا يتحدى مفهوم الدار الذي عليه مدار ملكية الأرض في البادية. فبين الكبابيش يقوم مفهوم الأرض على “تبريد الدار” وهو حيازة الأرض بحد السيف، وجعلها مثلجة لصدر من استبسل لتلك الغاية. وهذا التبريد هو أصل مشروعية قيادة النوراب، بيت الشياخة في الكبابيش، إلي يومنا هذا. ويجيز هذا المفهوم لصاحب الدار أن يستضيف جماعات أخرى بصفة “التبع” له.
وأفضل صيغة لأعراف الدار والتبع ما جاء في حكم للقاضي الإنجليزي هيز عام ١٩٥٣ رد به شعب الهواوير عن طلبهم دار لهم مقتطعة من أرض يزعم الكبابيش ملكيتها. وأجاز حكم هيز للقبيلة المستضافة الرعي والسقيا في دار مضيفهم على أن يدفع كل فرد منها “شاة” الحوض كل عام للسقيا. ومتى زرعت الجماعة التبع في الدار دفعت “الشراية” وهي ضريبة عينية مقدارها 3 أمداد عن كل ريكة. والريكة 30 مداً أي 4 أربع كيلات ونصف، أي عشر المحصول. وتمنع الأعراف الجماعة التبع المستضافة من حفر بئر “سانية” اي البئر العميقة الواصلة الحجر، كما لا يسمح لها بوضع وسمها المميز على الأشجار أو صخر الجبال بالدار، أو أن تضرب نحاسها في مدى الدار. ولذا كان التبع علاقة مهينة يفر منها أهل الريف فرار السليم من الأجرب. وكل هذا في حكم هيز.
أخذت على نهج أبي سليم في تعامله مع مفهوم المهدي للأرض تغاضيه عن هذا النمط الرعوي لملكية الأرض الذي تحرسه أرستقراطيات قبلية وتنتفع منه. فلم يكن المهدي برئياً، أو مثالياً، يدعو لمشاعة الأرض في منشوره المذكور كما ذهب إلى ذلك أبو سليم. فقد قلت في كتابي فرسان كنجرت إن المهدي، الذي خشي من مكر الكبابيش، من ربطتهم مصلحة التجارة مع مصر بدولة الأتراك، أراد بالمنشور أن يتحالف مع قبائل التبع التي كانت رازحة تحت الكبابيش مثل الكواهلة وبني جرار واللحويين مقابل تحريرهم من ذل التبع وشروطه الثقيلة. وكان الكواهلة بقيادة الأمير جاد الله ود بلليلو وبنو جرار بقيادة الأميرمحمد ودنيباوي (وقد ذاع “ود نوباوي” بدلاً عن الأصل) ممن تعقب الشيخ صالح الكباشي الثائر على المهدية حتى قتلوه.
القى بحث أبي سليم المتاخر عن الرزيقات والمعاليا ضوء جديداً على التبع ودونيته. فالتزامات المعاليا في التبع قريبة جداً مما وجدنا تبع الكبابش عليه. فلناظر الرزيقات نصيب مما ينتجه المعاليا من طق الهشاب للصمغ حتى تنازل عنه لعمد المعاليا أريحية منه، لا تفريطاً في الحق ذاته. وكان المعاليا قد طالبوا أن تكون ملكية الهشاب مثل ملكية النخيل في الشمالية، أي ملكية فردية أو أسرية ضريبتها للحكومة لا لناظر الرزيقات. ولم تأذن الحكومة لهم بذلك.
وضاعف اقتصاد المعاليا القائم على الزراعة من رغبة المعاليا في الاستقلال بشأنهم عن الرزيقات. فقد منعهم الرزيقات تصدير عيشهم، الذي اشتد عليه الطلب ذات مرة وارتفعت أسعاره، خارج الدار. وأرادت زعامة الرزيقات من ذلك تأمين سعر خفيض لأهلهم البادية. وزاد من وتيرة مطلب استقلال المعاليا عن الرزيقات مرور السكة الحديد بدارهم إلى نيالا في ستينات القرن الماضي. فرواج منتوجهم الزراعي في هذا السوق أغرى المعاليا بالتوسع فى أرض يسود عليها الرزيقات. وساق هذا الانتعاش إلى إعلاء الملكية الفردية بين المعاليا على ملكية الشيوع التي يقوم عليها اقتصاد الرزيقات.
ونبه أبو سليم إلى مرتكز هام في الاقتصاد السياسي للهوية وهو أنها تتخلق في الاقتصاد ولا تعكس مع ذلك ضروراته بشكل مبسط. فقسم المعاليا، الذي اشتغل بالرعي مثل الرزيقات، لم يتضامن مع أهله في طلب الاستقلال عن الرزيقات. فلم يكن أهل هذا القسم مشغولين بملكية فردية أو أسرية لأي من مفردات الزراعة.
احتوى الصلح الأهلي واقعة الرزيقات والمعاليا في ١٩٦٥ وتفاءل ابو سليم وقال في خاتمة كتابه موضوع نظرنا إن الجميع من رزيقات ومعاليا ينعم بالطمأنينة والاعتدال. ثم ثار الأمر بينهما ثورة بعد أربعين عاماً من الخصومة الأولى. وما يزال.
يا الله! متي يسكن ولاة أمرنا وصفوة الحكم والمعارضة إلى هذا البلد لا مجرد أن يسكنوا فيه بقلوبهم الشتى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.