مصر وأوكرانيا… تحديات اقتصادية وضغوط اجتماعية ونشاط دبلوماسي

0 86

 كتب: د. عمرو حمزاوي

.

تواجه الحرب الروسية على أوكرانيا الحكومة المصرية بطائفتين من التحديات المباشرة.
أولا، تستورد مصر، وهي المستورد الأكبر للقمح في العالم، 85 بالمائة من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا معا. وقد رتبت الانقطاعات التي أحدثتها الحرب في الإنتاج الزراعي الأوكراني ومعها التداعيات الاقتصادية والتجارية العنيفة للعقوبات الغربية على روسيا ارتفاعات غير مسبوقة في السعر العالمي للقمح. يعني ذلك أن الحكومة المصرية صارت مطالبة بتوفير وتوظيف المزيد من الموارد المالية لضمان الحصول على القمح اللازم للاستهلاك المحلي ولمنع تهديد الأمن الغذائي لمواطنات ومواطني البلد صاحب الكثافة السكانية الأعلى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وتتواكب مع الارتفاعات المسجلة بالفعل في أسعار القمح عوامل أخرى تضغط ماليا واقتصاديا على الحكومة المصرية. من جهة، تواصل وبفعل تحولات الاقتصاد العالمي في زمن الجائحة تصاعد معدلات التضخم المسجلة في البلاد لتقترب خلال العام الجاري من 7.5 بالمائة. من جهة أخرى، اتجهت الحكومة المصرية ممثلة في البنك المركزي مؤخرا إلى تخفيض قيمة العملة الوطنية في مواجهة الدولار الأمريكي ولرفع سعر الفائدة للحد من ظاهرة هروب الدولار إلى خارج البلاد ومن وضعية القلق التي كانت قد سيطرت على الأسواق المالية خلال الفترة الماضية. من جهة ثالثة، رصدت البيانات الحكومية معدلات تضخم عالية فيما خص السلع الاستهلاكية الأساسية، والكثير منها ومن بينها الدقيق والخبز يدعم في الموازنة العامة، وتفاعل ذلك سلبيا مع الإصلاحات التي أدخلتها الحكومة على سياسات الدعم.
وقد أعلنت حكومة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تخصيصها لموارد مالية إضافية لضمان استيراد القمح اللازم من مصادر بديلة لروسيا وأوكرانيا وموارد أخرى لضبط أسعار الدقيق والخبز إن المدعوم حكوميا أو غير المدعوم في بلد تقترب بها نسبة الفقر من 30 بالمائة. كما سعت الحكومة إلى التقليل من تداعيات تخفيض قيمة الجنيه المصري بالإعلان السريع عن حزمة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية من بينها توسيع نطاق برامج الأمان الاجتماعي (خاصة برنامج تكافل وكرامة) ورفع مرتبات العاملين في القطاع العام ومعاشات الموظفين. وبالمثل، توسعت الحكومة ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة في التشديد على عزم الجهات الأمنية التدخل في الأسواق لمنع التلاعب في الأسعار والحد من التضخم ودعوة المواطنات والمواطنين إلى مقاطعة التجار الجشعين. وسبقت الحكومة حزمة سياساتها الاقتصادية والاجتماعية بطرح استراتيجية جديدة للأمن الغذائي تقضي بزيادة عدد مساحة الأفدنة المزروعة قمحا إلى 2 مليون فدان بحلول 2024، وهي في وجهتها النهائية استراتيجية جيدة تكمن معضلتها الكبرى في ضمان الموارد المائية اللازمة لذلك وتحقيق الأمن المائي للبلاد في مواجهة التعنت الإثيوبي فيما خص تشغيل سد النهضة.
تواجه الحرب الروسية على أوكرانيا الحكومة المصرية، إذا، بتحديات مباشرة ترتبط بالأمن الغذائي والاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد في توقيت صعب تعمل فيه المؤسسات والأجهزة الرسمية على تحجيم الأضرار المترتبة على الحرب التي أودت أيضا بعوائد القطاع السياحي، وعلى الوصول إلى حلول جذرية بشأن ملفات الفقر والضمان الاجتماعي الضاغطة بشدة على صانع القرار في رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، وعلى الحد من الأخطار التي يضعها التعنت الإثيوبي في ملف سد النهضة على حق مصر ومواطناتها ومواطنيها في الحياة.

تواجه الحرب الروسية على أوكرانيا الحكومة المصرية، بتحديات مباشرة ترتبط بالأمن الغذائي والاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

من جهة ثانية، طورت الحكومة المصرية خلال الفترة الماضية علاقات قوية مع روسيا تتضمن شراء الأسلحة من المصانع العسكرية الروسية التي صارت المورد الأول للجيش المصري (قبل المصانع العسكرية الفرنسية) وبناء المفاعل النووي في الضبعة (بتكنولوجيا روسية وقروض روسية) وتعاون اقتصادي وتبادل تجاري متصاعدين بهما سياحة روسية نشطة لمصر واستيراد متنامي للمنتجات الزراعية وسلع الاستهلاك الغذائي من روسيا.
خلال الفترة الماضية أيضا، عملت الحكومة المصرية على توسيع مساحات توافقها السياسي مع روسيا فيما خص قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومن بينها الوضع السوري والملف الليبي. قبلت مصر الرسمية وجهة السياسة الروسية وتدخلها العسكري في سوريا والمتمثلة في استمرار بشار الأسد في السلطة وإعادة دمجه في الأطر الإقليمية العربية. توافقت مصر مع روسيا أيضا فيما خص الشأن الليبي الذي دعم به الطرفان عسكريا وماليا اللواء خليفة حفتر وحلفائه في الشرق في مواجهة قوى الغرب المدعومة تركيا وأوروبيا (باستثناء فرنسا) وأمريكيا.
غير أن ظاهرة التقارب المصري-الروسي والعلاقات المتنامية ومساحات التوافق المتزايدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لم تسفر مجتمعة عن انصراف مصر عن تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية وتعاونها الاقتصادي والتجاري والأمني معها ومع الاتحاد الأوروبي. في قراءة صانع القرار في رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، قد تصيب البرودة أوصال العلاقات المصرية الغربية إلا أنها تظل حجر أساس في السياسات المصرية الداخلية والخارجية. اتجهت مصر إلى المصانع العسكرية الروسية لتنويع مصادر السلاح دون ابتعاد عن العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، تماما مثلما تربط مصر علاقات اقتصادية وتجارية واسعة مع الصين دون أن يلغي الدور الصيني الأهمية الكبيرة للعلاقات الاقتصادية والتجارية مع أوروبا وأمريكا الشمالية.
لذا، وبعيدا عن وسائل الإعلام المصرية الرسمية والخاصة التي عادة ما تثير بها السياسات الأمريكية غضبا يترجم دفاعا عن مواقف القوى العالمية الأخرى وتميل اليوم باتجاه تبني المواقف الروسية فيما خص الحرب على أوكرانيا، سعت الحكومة المصرية إلى البحث عن تبني موقف متوازن بشأن الصراع الأمريكي والأوروبي مع روسيا. أدانت الدبلوماسية المصرية الغزو الروسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أنها اعترضت على العقوبات الواسعة المفروضة على روسيا وعلى تجاهل مقتضيات الأمن الروسي في الجوار المباشر بالضغط باتجاه تسليح أوكرانيا والامتناع الغربي عن إغلاق باب عضوية حلف الناتو في وجهها. أدانت مصر الحرب الروسية ورفضت العقوبات الغربية، وأنتجت خطابا أشبه بالخطاب الصيني الداعي إلى إنهاء الحرب والبحث عن سبل سلمية لضمان الأمن للطرفين الروسي والأوكراني والابتعاد عن تهديد الأمن العالمي. وارفقت مصر خطابها الرسمي المتوازن بحركة دبلوماسية في الشرق الأوسط ترجمت لقاءات متكررة بين المسؤولين المصريين ونظرائهم في دول عربية وفي إسرائيل وتهدف إلى إنجاز توافقات إقليمية تقلل من مناسيب الصراعات والنزاعات في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا في لحظة عالمية بالغة الصعوبة والخطورة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.