“الدين” كيف يصبح جامعاً لا مُفَرّقاً

0 63

كتب: عثمان ميرغني 

.

ما زلت أذكر قبل سنوات قراراً أصدره الوزير المختص بالتخطيط العمراني في ولاية الخرطوم بالسودان بهدم أحد المساجد الذي كان على وشك أن يكتمل بعد أن أنفق فيه المتبرعون أموالاً كثيرة، وأثارت الصحافة السودانية الواقعة في عاصفة من الاستنكار، فذهبتُ أستقصي الأمر بنفسي لموقع الحدث، ولفت نظري أمر مثير للدهشة.

المسجد الذي صدر أمر هدمه يقع على مسافة حوالي خمسين متراً فقط من مسجد آخر مثله في الحجم وحديث البناء، وبعد الاستقصاء من المصلين اتضح أن المسجدين يمثلان تنافساً داخلياً بين طريقتين صوفيتين، وصل لدرجة أن الصلاة في أحد المسجدين تُعد إشهاراً بالعداء لرواد المسجد الآخر، فمَن يدخل أحد المسجدين فهو بالضرورة يشهر القطيعة ضد المصلين في المسجد الآخر.

هذا المشهد متكرر في أماكن كثيرة هنا في السودان وبأشكال مختلفة ليرسم صورة لـ“الدين“ – بهذا الفهم – يجعله موضع افتراق لا لقاء، فيتحول المسجد الجامع إلى مسجد ”مُفَرّق“، بل ويرسم للدين معنى خطيراً مهدداً للسلام المجتمعي.

خلال سنوات النظام السابق في السودان، اشتهر بمحاولة استخدام ”علامة سياسية“ تعتمد على ”الدين“ لتستثير عاطفة السودانيين فيصنع ”شرعية“ الحكم من كونه الحارس للدين، وكان واحداً من أبرز الشعارات التي يرددها أنصار النظام (فليقم للدين مجده أو ترق كل الدماء)، فيكشف الهتاف الخلل العظيم في فهم معنى ”الدين“، الخلل الذي أنجب سلالات من التنظيمات التي تحمل كلمة ”إسلامية“ وهي بهذا الفهم في الحقيقة تجسد فكراً نقيضاً لما تدعو إليه.

المعنى الحقيقي لكلمة ”الدين“ لا يمثل كتلة واحدة لموصوف واحد محدد، فالإسلام ليس مفهوماً واحداً لشيء واحد قابل للكسر أو الإزالة من الوجود، إن لم يجد مَن يدافع عنه أو يحميه، فهو ليس راية أو نظرية فلسفية أو فكراً قابلاً للتلاشي تحت ظلال الصراعات الحضارية مثلما حدث للشيوعية خلال العقد الأخير من القرن العشرين.

وردت كلمة (الدين) في القرآن للدلالة على معانٍ مختلفة:

الدين: بمعنى الجزاء، يوم القيامة، يوم الجزاء.. (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). سورة الفاتحة (4).

والدين؛ بمعنى الأديان كلها.. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون). سورة التوبة (33).

والدين بمعنى القانون (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ..). سورة يوسف (76)، أي بحسب دستور وقانون الملك، دون تحديد لطبيعة القانون أو كونه على حق أو باطل كما ورد في الآية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) سورة الكافرون (6)، فهنا وصف حتى الشرك ومسلك الكفار بأنه ”دين“.

ثم أوضح القرآن أن من بين المعاني الواسعة للدين فإن الله اختار ”الإسلام“ تحديدا (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ..). سورة آل عمران (19).

لكن الإسلام ليس مجرد دين لمَن ينتسب إليه، فهو ليس مجرد دين المسلمين، بل هو دين مفتوح على مصراعيه للعالمين، تجاوز حتى الإنسانية لغيرها من المخلوقات ”الجن“ غير المرئية (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا). سورة الجن (14).

القرآن الكريم استخدم النداء العام في معظم الآيات التي تطلبت المخاطبة المباشرة، أو التوصيف المباشر للملكوت (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)). سورة الناس.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). سورة البقرة (21).

(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..) سورة البقرة (143).

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). سورة آل عمران (21).

الدين في الإطار العام والإسلام في الإطار الخاص لا يمثل ”كتلة“ واحدة قابلة لأن تحرس أو تُحمى أو تنسب له دولة أو مؤسسة أو تنظيم مهما كان، فهو ليس بطاقة ولا رابطة، فحتى عبارة (الدول الإسلامية) التي تستخدم على نطاق واسع تبدو مشتقة من الفهم الخاطئ لكون الإسلام ”موصوفا“ لهوية أو بطاقة أو رابطة، فمن الممكن أن يُقال ”الدول ذات الأغلبية المسلمة“ بل ربما الأفضل أن يُلغى المصطلح تماماً، فالإسلام ليس ”ديناً“ للمسلمين وحدهم.

الرسالة الخالدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي اعتمدت على القرآن الكريم، تمرحلت في النمو حتى بلغت الكمال (.. اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا..). سورة المائدة (3).

بلوغ الدين الكمال لا يعني اكتمال قوائم الحلال والحرام والعبادات والشعائر وغيرها، وإلا أصبح الدين مجرد ”كتالوج“ أو ”تعليمات“ مثل التي تُغذى للكمبيوتر أو الإنسان الآلي، لا، فالدين هنا هو الإطار المعرفي الذي يمنح القدرة على استصدار مثل هذه ”المعطيات“ وفق إرادة ذاتية ناشئة من الإنسان – أو حتى الجان – بمقتضى الفهم الموجب للامتثال أو العصيان (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك).

لو كان الدين قوائم حلال وحرام لما كان عابراً للزمان والمكان، فمستجدات الحياة كثيرة ومستمرة، واختلاف المكان يغير حتى شكل الإنسان، فضلاً عن مسلكه، لكن الدين يمنح القدرة على الاستنباط الذاتي الفردي المستمر لمطلوبات الحياة دون حاجة لتعليمات محددة، من عصر الكتابة على الجلود إلى عصر الكتابة في الإنترنت.

وبهذا المنطق، فإن ”الدين“ لا يجب أن يكون في الموقع الذي يجعله قابلاً للمس بشرياً، فهو قيمة ”صفرية“ لا تدرك بذاتها بل بنسبة الأشياء إليها.

عندما يقال إن مدينة معينة ترتفع فوق سطح البحر بألف متر، فإن المقصود هو قياس موقع المدينة وليس سطح البحر، لأنه هنا يمثل القيمة الصفرية التي منها يبدأ القياس.

والرقم ”7“ مثلاً“ هو سبع درجات فوق الصفر، دون الحاجة للبحث عن موقع الصفر، فهو هنا مجرد وسم المرجعية.

كذلك ”الدين“ قيمة صفرية لا تُقاس إلا بالقيم الناشئة عنها، مثلاً، الصدق، النزاهة، الإحسان، الرحمة وغيرها، مقدار ارتفاع هذه القيم هو المحك في القياس، وليس موقع المرجعية التي تنشأ منها هذه القِيم الدين، فهو الصفر الذي يبدأ منه القياس.

أهمية مثل هذا الفهم للدين والإسلام أنه يدحض ”حراسة الدين“ التي تُبنى عليها شرعية بعض المنظمات التي تحمل لافتة ”إسلامية“، فالقياس ليس بالدين بل بمقدار ما ترتفع فوقه القيم التي حض عليها الإسلام.

ويصبح معنى ”الدين“ جامعاً حتى مع اختلاف ”الأديان“ وليس مفرقاً – كما هو الحال الآن – حتى لمَن اتفقوا على ”الإسلام“، فهو قيمة ”صفرية“ لا تُدرك بذاتها، بل بالقيم التي حض عليها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.