السودان: ملاحظة أولى حول آلية الحوار
كتب: د. الشفيع خضر سعيد
.
نواصل اليوم حوارنا مع مكتوب الأخ علي ترايو في «سودان تربيون» والذي ناقش الآلية المثلى لمعالجة الأزمة السودانية. وفي مقالنا السابق، أعلنا إتفاقنا التام مع ما جاء في المكتوب حول أن العملية السياسية التي جوهرها الحوار هي الآلية المثلى لمعالجة المعضلة السياسة السودانية المأزومة، وذلك بإعتبار الحوار هو الممارسة الأكثر واقعية وفعالية للخطاب السياسي السلمي، وهي ممارسة خالية من المخاطر وقادرة علي حشد التوافق والإجماع لإدارة الصراع وإحداث التغيير، حسب الأخ ترايو.
ونوهنا في ذات المقال أننا بصدد مناقشة أطروحته من خلال مجموعة من الملاحظات، إبتدرناها بملاحظة أولية/تاريخية، إستعرضنا فيها، عبر فذلكة تاريخية مختصرة، بعضا من عناوين الحوارات والمفاوضات والإتفاقات التي جرت في سياق العملية السياسية المستمرة في بلادنا منذ العام 1947. وقلنا إن الإتفاقات الناتجة من المفاوضات مع نظام الإنقاذ البائد، أفضت إلى إنتقال عدد من المعارضين إلى مشاركتها السلطة التشريعية والتنفيذية، إلا أن أيا منها لم يوقف الحرب ولم يخاطب جذور الأزمة السودانية، بل ومن إفرازاتها السالبة إنقسام الوطن الواحد إلى دولتين تتفاقم الأزمة الخانقة في كل منهما. كما أن العديد ممن ولجوا إلى مواقع السلطة إثر تلك الإتفاقات، رجعوا مرة أخرى إلى صفوف المعارضة، إلى أن جاء إتفاق سلام جوبا في 2020. ولأنه يمثل حلقة هامة في الوضع السياسي الراهن في البلاد، نعيد تلخيص بعض ملاحظاتنا حوله، والتي سبق وناقشناها بعيد توقيع الإتفاق، وبهذا التلخيص نختم ملاحظتنا الأولى هذه..
رغم أي ملاحظات ناقدة لنصوصه إتفاق جوبا لسلام السودان، ونحن نتفق مع الكثير منها، إلا أن الإتفاق مثّل نقلة مهمة في المشهد السياسي السوداني، في إتجاه وقف الحرب الأهلية، ومواجهة حلقات الأزمة السودانية المزمنة، والتي إزدادت استفحالا في ظل النظام البائد. وفي هذا السياق، كان رأينا أن تنظم كل من فصائل الجبهة الثورية الموقعة على الإتفاق، والحكومة الانتقالية، حملات سياسية تشرح فيها لجماهير الشعب السوداني وخاصة في مناطق الحرب الأهلية، تفاصيل الإتفاق، من حيث مكاسبه الملموسة وكذلك الصعوبات المتوقعة أمام تنفيذه، والعمل بشكل مباشر وملموس وليس بالقول فقط، على إزالة أي مخاوف وشكوك عند الناس من أن الإتفاق سيتم إبتساره وإختزاله في مجرد إقتسام كراسي السلطة، الإتحادية والولائية، بعيدا عن حقوق وتطلعات شعبنا في مناطق النزاع والحروب. وللأسف هذا هو ما يهمس ويجهر به معظم الناس.
الحوار هو الممارسة الأكثر واقعية وفعالية للخطاب السياسي السلمي، وهي ممارسة خالية من المخاطر وقادرة علي حشد التوافق والإجماع لإدارة الصراع وإحداث التغيير
وفي الحقيقة، وإذا ما رجعنا بالذاكرة إلى كل الحوارات والمفاوضات السابقة ونواتجها من الإتفاقات، سنلاحظ أن ما تم التوافق عليه، صحيح كان خطوة هامة في إتجاه وقف الحرب. لكن، قطاعات واسعة من الشعب السوداني كانت تصر على أن محصلة إتفاقية السلام الشامل جاءت تعبيرا عن الرؤى السياسية للحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، في حين القضايا ذات الصبغة القومية الشاملة جاءت كناتج ثانوي لهذه الرؤى. وأن منابر أبوجا والدوحة والشرق لم تتناول قضية التهميش في دارفور وشرق السودان وفق المنظور السياسي القومي، بل إختزل الأمر في إتفاق فوقي حول إقتسام كراسي السلطة. وأن إتفاق القاهرة بين التجمع الوطني الديمقراطي والحكومة، رغم بنوده الثلاثة عشر التي غطت معظم حلقات الأزمة السودانية، تلخص في محاولة لزيادة نصيب أحزاب التجمع في كيكة السلطة! وغض النظر عن الإتفاق أو عدمه مع أي من هذه الانتقادات، إلا أنها، في تقديري، كانت تحتوي على العديد من النقاط الموضوعية.
وفي رأيي، أن من العيوب الرئيسية في منبر سلام جوبا التفاوضي، أن القضايا القومية التي نص عليها الإتفاق، مثل المحددات بشأن نظام الحكم المستقبلي في البلاد، بما في ذلك النص على تبني الفدرالية، والنص على أن تتخذ الحكومة الانتقالية التدابير القانونية اللازمة لاستصدار قرار رسمي بالرجوع إلى نظام الأقاليم خلال مدة لا تتجاوز الستين يوما من تاريخ التوقيع على اتفاق السلام (وهو ما لم يتم بالطبع) والنص على تمديد عمر الفترة الانتقالية…إلخ، هي قضايا لا يمكن بحثها والوصول إلى اتفاق شامل حولها في غياب القوى السياسية الرئيسة الأخرى في البلد. كما أن الإتفاقات الخاصة بدارفور والمنطقتين لم تشمل حركة تحرير السُّودان/عبد الواحد محمد نور، والحركة الشعبية لتحرير السُّودان/عبد العزيز الحلو التي تنفرد بالتواجد في منطقة جنوب كردفان.
أما الإتفاق الخاص بشرق السودان، ففجّر انقساما سياسيا وأهليا حادا في الإقليم، إذ يرفض البعض أن تكون القوى التي وقعت عليه هي المعبر الأوحد أو الرئيسي عن قضايا ولايات الشرق، كما يتهمونه بتجاهل مطالب الشرق في التنمية، وبضعف نسبة تمثيله في السلطة، وبإغفاله جداول التنفيذه، وتحديد مداه الزمني. وعلى ذات المنوال، واجهت القوى التي وقعت على الإتفاق الخاص بمسار الشمال ومسار الوسط، معارضة عنيفة بإعتبار أن ليس من حقها إدعاء الانفراد بتمثيل هذين المسارين ولم يفوضها أحد بذلك. وفي الحقيقة، فإن كل الإتفاقات الخاصة بالمسارات، لها آثارها وإنعكاساتها على المستوى القومي ككل، مما يُضفي بعض التعقيد على الإتفاق، ويخلق صعوبات أثناء تنفيذه. فالإتفاق يتضمن قدرا كبيرا من التفاصيل عن السلطات التي ستمارسها أقاليم دارفور والشرق ومنطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، لكنه يلتزم الصمت حيال هيكلية الحكومة الوطنية وصلاحيات بقية المناطق. والإتفاق يعطي منطقتي النيل الأزرق وكردفان حكما ذاتيا واسعا وسلطات أكبر بكثير من إقليم دارفور، ومع ذلك لم يسم أيا من المنطقتين إقليما. كما أن الإتفاق تجاهل أوضاع البلاد الاقتصادية المنهارة، وألزم الحكومة الانتقالية بدفعيات مالية ضخمة جدا كان واضحا منذ البداية أنها لن تستطيع الإيفاء بها، بينما ظلت قضية الترتيبات الامنية والعسكرية عالقة حتى اللحظة، وما يمكن أن يترتب على ذلك من خطورة أمنية. وبهذا الاستعراض التاريخي المختصر، ننهي ملاحظتنا الأولى وسنتناول الأخريات تباعا.