يوسف الموصلي.. طريق المثابرة من الغناء بالرق إلى قيادة السيمفونية

0 67
كتب: صلاح شعيب
.
ولد يوسف عثمان محمد بلال النور جبرة في دنقلا عند جزيرة مروارتي. أسرته أتت به إلى الخرطوم، وهو لما يُكمل شهورا عددا، فسكن في منزل والده سائق مدير مديرية الخرطوم ثم انتقل معه إلى جبل أوليا، وعاد ثانية إلى إشلاق الخرطوم غرب المقابل لمبنى البعثة التعليمية المصرية وظل هناك حتى مرحلة الجامعة. ناظران أثرا عليه في بدء مرحلته التعليمية، ولم ينسَهما هما علي عباس النعمة وهاشم عبدون. وفي الأهلية الوسطي يتذكر تأثيرَ اساتذته عليه، منهم محمد حمزة، ومحمد نور الذي كان يكتب في مجلة الرياضة. ثم التحق بالأهلية الانجيلية المصرية، وهناك تلقى درساً في النوتة الموسيقية على يد مصريين ثم تحول إلى مدرسة جمال عبد الناصر الثانوية، والتي كانت في الليل تصير إلى جامعة القاهرة فرع الخرطوم. وأثناء هذا التجوال كان يرعى الفتى غنم الأسرة حتى شاطئ النيل الأزرق، وغابة السنط، ممتلكا آنذاك قدرة التسلق على النخيل، والتمر هندي، والتمر أبونا، وعندما يَفيض النيل الأبيض يصطاد يوسف السمك البلطي يوميا، ويحملُه في خرتايته فيكون عشاء الأسرة دسما.
ولما قوى جسمه عزم على أن يكون رياضيا في رابطة الخرطوم غرب بجوار إخوانه الذين لعبوا ثلاثتهم للنيل، والأهلي الخرطوميين، ولما تطورت تابلوهاته انتمى إلى ليق الخرطوم عبر الطليعة في نشاط رياضي محموم، ثم دخل نادي النيل متدربا على يد الملاكم الشهير وقتها يوسف زكريا، على أن هوايته الغنائية بدأت من تلحين الأناشيد بشكل مخالف لما اعتاد عليه المدرسون، والتلاميذ في أسلوب التلحين، فلحن “أيها الاسود قل لي حتى أصبحت ظلي” مجاريا لحن أغنية شرحبيل “خطوة خطوة نسير”. ومع ذلك يتذكر الموصلي أن أستاذاً للعربي يدعى الضرير يناديه في غير مرة لتلحين كل قصيدة يشرحها لزملائه التلاميذ.
حينما ظهرت فرقة البلابل مع بشير عباس كان هو في الصف الثالث بالثانوية فقرر المجاراة. كون فرقة بلابل إشلاق البوليس الغربي أداتها طبلة وكورس فكان أول حفلة للفرقة في حي بانت عام ١٩٧٥، وكان نصيب الفرقة خمسة وسبعين قرشا فاشترى رقا وباسطة، ثم بدأت الألحان تترى فكانت أول أغنية “بسمة وقالو لي منديلك”، والتي كانت نتاج ردة فعل لهدية تمثلت في منديل وصلته من شابة جميلة صارت لاحقا زوجة لضابط بوليس ترقى في مدارج الشرطة حتى وصل لرتبة لواء، وفيما بعد استخدم اللحن لنص “مسافتك لا مقدور أسيبك ولا عايش معاكي..” والتي أداها الفنان الراحل محمود عبد العزيز.
“بريدك يا حبيبي بريدك” كانت كتابته الأولى في مجال الشعر، وعن هذه التجربة المدفوعة بمرحلة المراهقة قال إنها كانت صادقة، ونجحت الأغنية بشكل منقطع النظير، وأداها مغنون شعبيون وصارت تترافق مع غناء البنات حتى ظنها الناس أنها أغنية شعبية بينما هو كاتبها وملحنها.
في تلك الأثناء لم ينقطع نشاطه الرياضي فواصل في السجانة مع فريق النيران، وفي ديم الزبيرية لعب مع الهجرة حيث سكنت الاسرة خلف سينما النيلين. ويرى أن السينما – خصوصا الافلام الهندية – أثرت فيه كثيراً، إذ كان يذهب للسينما منذ أن كان عمره سبع سنوات في الديوم الغربية، ويحمله إخوانه نائما في طريق العودة.
مع مرور السنوات رحلت الأسرة لامتداد الصحافة، وأصبحت العودة لإشلاق البوليس الغربي لماماً، وبالرق كون هناك فرقة موسيقية لمع عبرها حتى سمي يوسف الصحافة اول شخص، وتنازعته أيضاً تسمية يوسف جبرة، وواصل في كتابة شعر غنائي كثير من ضمنه: “تايه قلبي في حبك” و”حاضر في دروب قلبك” و”لما عرفتك انك بتسلم علي” و”شايفنك يا سيد الناس” و”يا سلام منك يا الصغير سنك” و”وردة فوق البص زايدة في الإخلاص” و”من زمان عايش معاي ليك زمن كايس هناي” و”انتا يا الشلت الجريدة شلت روحي عشان تريدا” و”أنا لي من عيونك يا الناعسات جفونك” و”حبي ليك يا أغلى حلوة ربنا يغطيك يصونك”، وبلغت نصوصه التي كتبها، ولحنها، نحو خمسة وعشرين نصا أداها جميعا بآلة الرق. ومن هذه الأغنيات استعار لحناً لنص “لاني قدرك لا بطولك..لا بكسر خاطري قولك” الذي كتبه الشاعر عبد المنعم الجزولي، وأدى العمل الفنان الراحل حمد الريح.
في عام ١٩٧٤ مارس يوسف نشاطه مع شباب السجانة ومجموعة الموسيقار عبد الماجد خليفة التي تؤدي الأعمال الوطنية، والدينية، وشال مع أبي داؤود، وسيد خليفة مع كورس المجموعة، وكذا مع كثير من الفنانين. لكن عبد الماجد قال له إن إلحاق اسمه بالصحافة لا نفع منه، فاقترح عليه تلقيبه بالموصلي تيمنا باسحق إبراهيم الموصلي فارتاح للقب الذي لازمه إلى يوم الناس هذا.
في مركز شباب السجانة تعلم الموصلي أساسيات الموسيقى على يد الموسيقار الكبير محمد آدم المنصوري، والموسيقار إسماعيل عبد الرحيم الذي يصفه بأنه أعظم مدون، وعازف للكمان، وكذلك تعلم شيئا من العازف محمد عبدالله أميقو الذي قال عنه إنه لا يقل عن إسماعيل في الموهبة الموسيقية، واعترف له بدور كبير في دفعه ليتخلى عن محدودية الرق وينفتح على وسع الاوركسترا.
لاحقا التحق الموصلي بالمعهد دفعة 74 بعد أن تجاوزته المنافسة مع الدفعة التي سبقته بعام، وكانت تضم عركي، وزيدان، وخليل إسماعيل.
وأثناء فترته الدراسية بالمعهد أنتج أغنيات كثيرة منها “هجر الحبيب قاسي وصعيب” من كلماته، وألحانه، و”انتي لي” لعز الدين هلالي و”مما قمنا شفنا الشارع هو البيعلم” لهلالي ونبض الشارع أيضاً التي لحنها أنس العاقب ثم “بجيك الليلة في الميعاد” التي كتبها بالاشتراك مع محمد إبراهيم عبد الماجد عازف الطرمبة، وهي من ألحانه، ويغنيها الآن معتز صباحي.
حينذاك غنى أيضاً ثلاث من كلمات هلالي، وألحان صلاح محمد الحسن (حاول أسرح فيني حبة، وعشان عارفني، والفضل يرجع ليها هي) و”صدفة صوتك لما جاني” كتبها بالتعاون مع بشير سليمان وغناها زرياب، وغنى لصلاح محمد الحسن أيضاً “غنت ليك أغاني الريد” ثم لحن الموصلي “على قدر الشوق” و”الأماني السندسية” و”الكلام القالو عنك” ولحن لعبده الصغير “يا ذاتي من عبر القرون جيتك أنا” ثم لحن لسمية حسن “رسالة إلى أمي”.
في تلك الفترة دخل الفنان الموصلي مهرجان الثقافة الأول بأغنية “وينك انتي الطال غيابك” والتي اختيرت في المهرجان الأول لتقدم أمام الرئيس نميري، وهي من كلمات عبد العال السيد، وبعدها لحن عددا هائلا من الاعمال لعلي السقيد منها “فرحانة بيك كل النجوم” و”مداك مداد في بواقي الليل” و”رجعتي القلب يدق تاني”. وقدم للبلابل “حبيتك حقيقة”، و”نار هواي”، و”كبرياء”، و”الطريق”، و”خبي الشروق” لمجذوب أونسة، وفي إحصائية للفنانين الملحنين الذين منحوا أعمالهم لزملائهم تفوق الموصلي حيث قدم لهم أكثر من 45 أغنية، وهكذا اشتهرت ألحانه التي غناها هو، ورددتها الأجيال المتعاقبة مثالا لا حصرا: “بلدنا نعلي شانا”، و”شوق الهوى”، و”الحب يا أم سماح”، و”الأماني السندسية”، و”سفر العيون”، و”انتي ليا”.
ساهم الأستاذ يوسف الموصلي بالغناء للثورة السودانية بأكثر من 20 عملا وبدأت مقاومته للنظام السابق أيام القاهرة بأغنيات كثيرة منها “لصوص العصر”، و”أباريقك في دبابة”، و”يا جمرة يامعصوبة العينين”، والأخيرة من كلمات مصطفى سيد أحمد.
یوسف عثمان محمد بلال بعد نصف قرن من تجربته الموسيقية انتهى إلى كونه مؤلفا موسیقيا، وموزعا، وقائد اوركسترا، ومغنيا، وناقدا فنيا، ومدربا للاوركسترا، والكورال الأكاديمي بكلية الموسیقى والدراما. فالوصف الوظیفي للمھن التي شغلها الموصلي تتمحور حول التألیف الموسیقي، وتدریس القوالب الموسیقیة منها الكاونتربوینت، والھارموني وعلم الآلات، والتوزیع الاوركسترالي، والتحلیل الموسیقي، وقيادة الاوركسترا، وارتبط دوره بالإدارة الفنیة للتوزیع الموسیقي على البرامج الكومبیوتریة، وتسجیل الأعمال على القنوات المتعددة الحدیثة بواسطة التسجیل الرقمي، وقيادة الاوركسترا ثم المزج الموسیقي لما يتم تسجیله وصولا إلى الُمنتَج النھائي.
بدأت الجولة الأكاديمية لیوسف الموصلي كمعید بالمعھد العالي للموسیفى والمسرح قسم التألیف والتوزیع الموسیقي في عام 1979 ثم عمل محاضراً بالمعھد قسم التألیف والتوزیع الموسیقي 1989، وحصل الموصلي على بكلاریوس المعھد العالي للموسیقى والمسرح في عام 1979 ثم ماجستیر التالیف الموسیقي بالمعھد العالي للكونسرفتوار باكادیمیة الفنون بجمھوریة مصر العربیة في عام 1989.
وفي غربته حصل الفنان على ماجستیر التألیف والموسیقى الالكترونیة بكلیة الموسیقى بجامعة آيوا في الولایات المتحدة الامریكیة في عام 2004 ثم ماجستیر تكنلوجیا التعلیم بجامعة براندمان في كاليفورنيا بالولایات المتحدة.
وشغل منصب المدیر الغني لشركة جواھر للإنتاج الفني بالسودان 1990، وكذلك المدیر الفني لشركة سودان فیستفال بالسودان 1991، والمدیر الفني لشركة حصاد للإنتاج الفني القاھرة 1993، والمدیر الفني للمركز السوداني للمعلومات، ورئیس قسم البحوث الموسیقیة بمدینة لوس انجلس بالولایات المتحدة الامریكیة 1998. وهو المؤسس والمدیر العام وأستاذ بمركز الموصلي للموسیقى والفنون بمدینة آيو بالولایات المتحدة الامریكیة 2002. كذلك عمل الموصلي أستاذا مساعدا بمعھد الدفاع للغات في عام 2005 -2018 في الولایات المتحدة الامریكیة.
إلى ذلك قاد الموسیقار یوسف الموصلي في غربته الاوركسترا السودانیة الامریكیة المشتركة في أكبر مھرجانین سودانیین في تاریخ الموسیقى السودانیة بنجاح ملحوظ وغنى فیھما أیضا في مدینتى شیكاغو ودیترویت بمسرحي سنترال بارك والمسرح السیمفوني بمدینة دیترویت وقام بالتوزیع الموسیقي لأغنية نسم علینا الھوى للأخوين رحباني، وفیروز و تخیل Imagine لفنان الخنافس جون لینون وتم تقدیمھا بواسطة فنانین من أنحاء العالم بمسرح MGM Grand بمدینة لاس فیجاس في نیفادا بالولایات المتحدة الامریكیة، وبعد عودته للبلاد أسس وقاد اوركسترا وكورال الخرطوم في عام ٢٠١٩، وعمل رئیسا للجنة الفنیة بدار الخرطوم جنوب للغناء والموسیقى ٢٠١٩.
شارك الموصلي في عدد من المهرجانات المحلية والإقليمية والدولية، منھا على سبیل المثال مھرجان الأخوة السوداني المصري 1976، المھرجان الغنائي الأول 1979-1978، مھرجان الاغنية العربیة طرابلس لیبیا 1979، المھرجان الثقافي الاول السودان 1980، مھرجان التالیف لالات النفخ 1987 روما، مھرجان الربیع 1989 كوریا الشمالية في بیونغ یانغ، واحتفال جمعیة المؤلفین الروس 1989 موسكو، ومھرجان الغناء السوداني ادیس أبابا اثیوبیا 1995، مھرجان السوق الأفريقية لوس انجلس امیركا 1998، مھرجان التالیف الموسیقي 2002 اندیانا امیركا، مھرجان الموصلي ایواسیتي 2002، مھرجان التالیف الموسیقي 2003 اوبرلین اوھایو، مھرجان التأليف الموسیقي 2004 ایوا سیتي، مھرجانات للموسیقي الكلاسیكیة الحدیثة تمت المشاركة فیھا بالأعمال المسجلة بكل من ایطالیا ، فرنسا، انجلترا ، والمانیا وقاد الاوركسترا السودانیة الأميركية بمھرجان الموسیقي السودانیة بسنترال بارك نیویورك.
في مجال الإنتاج الغنائي والموسیقي أنتج الموصلي مئات الأعمال التي تراوحت بين اللحن والتوزيع الأوركسترالي، والأشراف على إنتاج الالبومات الموسيقية منها أمطرت لؤلؤا للكابلي والمجموعة، ولیل الشجن للبلابل، وأرحل لوردي، وسوف یأتي لمحمد الأمين والحزن النبیل، والبت الحدیقة لمصطفي سید أحمد، وألم الفراق لإبراهيم عوض، ومانسیناك لأحمد الجابري، وواحشني لأبي عركي البخیت، وحنین یالیل لزیدان ابراھيم، وكل النجوم لهادية طلسم، والمشاویر لعلي السقید، وكلمة لصلاح ابن البادیة.
في الموسیقي الكلاسیكیة الحدیثة أنتج الموصلي عدة أعمال منفرده، مثل مقطوعة مروي للاوركسترا السیمفوني وله عدة مؤلفات للموسیقي الالیكترونیة. وقام بعملیة فنیة مشتركة مع أحد المؤلفین الموسیقیین من فرقة الرولینغ ستونس في أحد الاستودیوھات بالولایات المتحدة الامریكية، وهو عمل یستھدف السلام، والخیر، والعدل، لصالح منظمة حقوق الإنسان العالمیة. وسیبث العمل فور الانتھاء من عملیة المكساج الفني حيث یشارك فیه فنانون من شتى أنحاء العالم.
قدم الموصلي أيضا بعض البرامج الموسیقیة مثل ساحة الفن، وهو برنامج تحلیلي بالإذاعة السودانیة بين عامي ١٩٧٨ و١٩٨٠، وبرنامج المایسترو في قناة S24، وهو برنامج غنائي تحلیلي. ويملك عدة مؤلفات في النقد التحلیلي منھا سلسلة التحلیلات بمجلة الإذاعة والتلفزیون السودانیة 1976-1979، وصفحة واحة فنون بجریدة الخرطوم 1995. وساهم الموصلي بحضور دائم في العدید من مواقع الإنترنت مشاركا في الحوارات التي لها شأن بالغناء والموسيقى والشأن الوطني. وشارك في سلسلة كتیبات أهل المغني، والتي تناولت الفنان محمد وردي، والراحل المقیم مصطفي سید أحمد عليهما الرحمة، وكذلك تناولت تجربته الإبداعية.
وهكذا بدا فنانا نجما باذخا في سماء الإبداع السوداني بعد تجربة نصف قرن من المثابرة في الحقل الموسيقي، وما يزال أستاذ الأجيال يوسف الموصلي يَجّد في تغذية هذا المشروع الإبداعي بكثير من الصبر، والإصرار على خدمة أحاسيس أمته، وله عمق التحايا، وطول السلامة، وبريق المقام، واستمرار التوهج الفني.
.
May be an image of 1 person

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.