بحث اليسار والليبرالية عن عقد إجتماعي جديد
كتب: عمرو حمزاوي
.
ثمة انطباع عام يهيمن على حواراتنا حول الأهمية والفاعلية المجتمعية للتيارات الليبرالية واليسارية مؤداه أن النسيج الاجتماعي للبلدان العربية وتراكيب حياتها السياسية وثقافتها الغالبة تعوق نمو الأولى والثانية بينما تمكن الحكومات من الاستئثار بمساحات نفوذ وتأثير مطردة الاتساع ومن إدارة شؤون المجتمعات دون معارضة تذكر. غير أن الثابت أيضاً أن اليسار والليبراليين العرب، وعلى الرغم من القيود الرسمية المفروضة عليهم والممارسات القمعية التي تنزل بهم، لا يعدمون الفرص الاجتماعية للتأطير والتحرك الشعبي وصياغة رؤى بديلة أو مكملة لتوجهات النخب الحاكمة بحثا عن الفاعلية المجتمعية المفقودة.
وربما تمثل الشرط الأول لخروج اليسار والليبراليين من حالة الوهن الراهنة في الإدراك المنظم والكاشف لجوهر القضايا التي تمنح هذه الفرص الاجتماعية هويتها وتصيغ لها أبعادها الواقعية. وفيما يلي قراءة أولية في أربع من هذه القضايا أحسبها مركزية على امتداد العالم العربي.
هناك، من جهة أولى، مسألة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنات والمواطنين. باستثناء بعض الحالات الخليجية، تعاني البلدان العربية من اختلالات اقتصادية واجتماعية طاحنة أبرزها الفقر والبطالة والهجرة غير الشرعية وانهيار مستويات الخدمات الأساسية المقدمة في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة وتهافت شبكات الضمان الاجتماعي. في هذا السياق، عمقت السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها معظم النخب الحاكمة منذ تسعينيات القرن الماضي وعلى نحو تصاعدي خلال الأعوام القليلة الماضية (ومع أنها رتبت بعض التحسن في معدلات النمو الاقتصادي العام) من هذه الاختلالات ودفعت بالقطاعات الشعبية الفقيرة ومحدودة الدخل نحو لحظة تأزم حقيقية. وتتشابه التيارات الدينية في بعض البلدان العربية مع النخب الحاكمة فيما خص اختياراتها بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فعلى الرغم من كون تلك التيارات قد شرعت منذ ثمانينيات القرن المنصرم في بناء شبكات تقديم الخدمات الأساسية في قطاعات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وحلت بذلك جزئياً محل المؤسسات الرسمية محدودة الفاعلية (الأردن نموذجا) فهي لا تملك اليوم تصورات واضحة للتعامل مع نواقص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وما لبثت تتأرجح في مقولاتها البرامجية ومواقفها العلنية بين نزوع شبه ليبرالي يرى في السوق والقطاع الخاص قاطرتي النمو ونزوع شبه يساري معاكس يتبنى عودة الدولة القوية أو الدولة الأب الوصية على المجتمع (المغرب نموذجا).
في مقابل ذلك، يملك اليسار العربي وكذلك الليبراليون الملتزمون اجتماعيا فرصة حقيقية لصياغة رؤية بديلة تدفع إلى الواجهة بالجوهر الكامن وراء نواقص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ألا وهو قضايا العدالة والمساواة ومكافحة البطالة وبناء شبكات فعالة للضمان الاجتماعي وتقليص الفجوة متزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات العربية.
الشرط الأول لخروج اليسار والليبراليين من حالة الوهن الراهنة في الإدراك المنظم والكاشف لجوهر القضايا التي تمنح هذه الفرص الاجتماعية هويتها وتصيغ لها أبعادها الواقعية
بلا ريب ستختلف وتتمايز الصياغات اليسارية والليبرالية، غير أن كشف جوهر العجز والقصور في رؤى النخب الحاكمة والتيارات الدينية وتعرية الواقع العربي الرديء سيجمعها ويقربها من قطاعات شعبية واسعة. وقناعتي أن المدخل المجتمعي الأفضل لإنجاز هذه المهمة هو تكثيف النقاش حول «العقد الاجتماعي المفقود» في بلداننا وحاجتنا الماسة اليوم قبل الغد إلى صناعة توافق حقيقي بشأن مفرداته ومضامينه والضغط على النخب لأخذها بعين الاعتبار.
هناك، من جهة ثانية، مسألة الحريات السياسية والمدنية والفردية: لم تعد أغلبية النخب الحاكمة في بلدان العرب ترفع يافطات الإصلاح الديمقراطي والانفتاح السياسي، وحدثت خلال الأعوام الماضية ارتدادات حقيقية تمتد من البحرين شرقا إلى الجزائر والمغرب غربا. لم تزل غيابات تداول السلطة وحكم القانون والفصل والتوازن بين السلطات ومعدلات المشاركة الشعبية المنخفضة في الحياة السياسية على حالها لم تتغير أو تتحسن جديا. كذلك لم يرتب تنامي الوزن السياسي وتصاعد حراك التيارات الدينية في بلدين كالمغرب وتونس اتساعا ملموسا أو مستداما لساحات المنافسة الحزبية. كما لم يقو إسلاميو المغرب على وضع ضغوط فعلية على المؤسسة الملكية للإصلاح الديمقراطي، ولبثوا لبضع سنين أسرى مشاركة في السياقات الرسمية غابت عنها الفاعلية وحملتهم ثمناً باهظاً تمثل في الانكماش التدريجي لقواعدهم الشعبية. وفي تونس، رتبت خطايا الإسلامويين، من بين أمور كثيرة أخرى، أزمة راهنة حادة للتجربة الديمقراطية التي تعصف بها الإجراءات الاستثنائية لرئيس الجمهورية.
يتيح تدني وجمود مستويات ممارسة الحريات السياسية والمدنية والفردية لليسار والليبراليين إمكانية الاعتماد على قضايا من شاكلة حرية التنظيم النقابي والحزبي والحق في التعبير الحر عن الرأي بغية الاقتراب من قطاعات مجتمعية متنوعة. الشرط الأساس هنا هو إنتاج خطاب حرياتي واضح المعالم يعتمد مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والعلمانية والتعددية ويتجه نحو المواطنين كافة مع التركيز على القطاعات المحرومة مدنيا أكثر من غيرها كالأقليات الدينية والعرقية والنساء وكذلك من يخرجون في سلوكهم الشخصي، دون إلحاق للضرر بالغير، عن الأنماط المقبولة مجتمعيا والمعتمدة دينيا.
ثم هناك، من جهة ثالثة وأخيرة، مسألة إخراج النقاش العربي من خصوصيته الخانقة إلى رحابة الحوارات العالمية. ليست بلداننا العربية بمفردها هي التي تعاني اختلالات اقتصادية واجتماعية وسياسية طاحنة، بل هو هم إنساني مشترك وإن تعددت إرهاصاته وتعددت تداعياته.
فقضايا العدالة والحرية والمساواة والتضامن ما لبثت تطرح نفسها على المجتمعات المتقدمة والنامية على حد السواء وتبدو أهميتها اليوم مرشحة للتصاعد. فالمؤكد أن الصعود غير المسبوق للتيارات الشعبوية والعنصرية واليمينية المتطرفة في بلدان الغرب الديمقراطي والارتدادات المستمرة إلى السلطوية في بلدان تحولت حديثا إلى الحكم الديمقراطي (المجر نموذجا) سيرتب نهاية حقبة الرأسمالية المنفلتة والمتوحشة، ويعمق عالميا من التفكير الجدي في استراتيجيات التصحيح والترشيد الممكنة وصولاً إلى صناعة توافقية للحظة توازن جديدة بين الاقتصادي بمعناه الربحي الضيق والمجتمعي بمضامين العدالة والحرية والمساواة المندرجة في سياقاته.
مثل هذا التفكير العالمي المتجدد في طبيعة «النموذج الأفضل لإدارة ترابطات الدولة والمجتمع والمواطنين» يفتح لنا كعرب مساحة هامة لربط نقاشاتنا حول العقد الاجتماعي المنشود بالحوارات شديدة الحيوية خارج حدودنا إن في الغرب أو الشرق والجنوب. ولا يوجد من هو أقدر من اليسار والليبراليين على تحقيق هذا الربط، فهم يملكون ناصية نفس المقاربات الفكرية والأدوات المفاهيمية التي تصيغ الحوار العالمي ويستطيعون، إن أعادوا اكتشاف ذواتهم وذاكرة فاعليتهم المجتمعية السالفة، أن يجسروا الهوة الحادة الفاصلة بين خطابات ورؤى النخب الحاكمة العربية والتيارات الإسلاموية وبين الوجهة المستقبلية للضمير البشري.
كاتب من مصر