الحرية والتغيير .. من جديد؟!

0 44

كتب: د. عمر القراي

.

زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”.

صدق الله العظيم

إن الموقف الأخير الذي وقفته قوى الحرية والتغيير موقف سليم من حيث الشكل والمحتوى والهدف السياسي، أما من حيث الشكل، فلأنها تعاملت بشفافية مع الشعب السوداني أخبرته بما تنوي القيام به قبل أن تقوم به، ثم أعلنت مسبقاً عن أنها لن تحيد عن مطالب الثوار، ثم قبلت الحوار مع أمريكا والسعودية بعد أن رفضت الحوار الذي دعت له الآلية الثلاثية والذي تجمع فيه الفلول وأنصار انقلاب المكون العسكري على الثورة. وأما من حيث المحتوى فإنها أوضحت أنها لا تقبل بمشاركة العسكر في الحكومة، ولا تقبل بالعودة لما قبل 25 أكتوبر من شراكة، ولا تقبل بالوثيقة الدستورية التي مزقها الانقلاب، وإنما تدعو لإنشاء دستور جديد، يتم بتوافق كل القوى الثورية، والهدف السياسي من قبول دعوة أمريكا والسعودية هو إظهار أن دعاة المدنية ليسوا متعنتين ولا مشتطين حتى لا يمكن معرفة رأيهم، ثم إن أمريكا كان موقفها منذ البداية مع الثورة منذ أن كان السفير الأمريكي يزور المعتصمين في القيادة العامة، ثم ما تبع من إيقافهم المعونات والإعفاءات عن المكون العسكري وتهديده بالعقوبات إذا لم يستجب للمدنية التي ينادي بها الثوار.

فإذا كانت دولة عظمى مثل أمريكا قد سارت كل هذه الخطوات نحو الشعب، يجب على النشطاء في الحقل السياسي اعتبار ذلك وكسب دعمها بدلاً من رفض الحوار معها. وكذلك السعودية، رغم علائقها المشبوهة مع الانقلابيين، إلا أنها متى تركتهم ويممت وجهها تجاه الثوار، يجب أن يتحاوروا معها ويكسبوا جانبها لوزنها الإقليمي الظاهر. لقد كانت دعاية العسكر والانقلابيين، أن الثوار متعنتين ولا يراعون الأخطار التي تهدد البلاد بعدم قبولهم الحوار والتفاوض، وقد أوشكوا أن يقنعوا المجتمع الدولي بذلك، فجاء قبول الحرية والتغيير للحوار معهم مبدداً لتلك الدعاية الضارة، ومؤكداً أن الثوار لا يرفضون أي حوار وإنما يرفضون الحوار الذي يرسخ لحق العسكر في المشاركة السياسية، فيخالف شعار الثوار(العسكر للثكنات والجنجويد ينحل).

على أن هذا الموقف الجيد لقوى الحرية والتغيير لا يمحو أخطاءها، إلا إذا قامت بخطوة شجاعة وجريئة حلت بها كيانها. فقوى الحرية والتغيير سارت إلى التفاوض وكأنها هي الممثل للثورة، مع أنها تعلم أنها الآن ليست المحرك للشارع وإنما لجان المقاومة هي التي تقوم بذلك. وكان يمكن لها أن تقول للأمريكان والسعوديين: “إننا نقبل الحوار معكم ولكن أمهلونا حتى نتصل بلجان المقاومة، وتجمع المهنيين، ومنظمات المجتمع المدني، والشخصيات السودانية الثورية، وممثلي الحركات المسلحة، بمن فيهم الحلو وعبد الواحد، ليختاروا من بينهم المجموعة التي تحاوركم، ويمكن أن نحاور العسكريين إذا قبلوا بالبعد عن السياسة”.

قوى الحرية والتغيير اليوم ليس لها وجود قانوني لأنها تكونت باعتبارها القوى الموقعة على الوثيقة الدستورية، وما دامت الوثيقة قد مزقها العسكر، وقوى الحرية والتغيير نفسها ذكرت أنها لا تريد العودة إليها، فإنها كجسم لا مبرر لوجودها، ويجب أن يرجع كل من فيها تلقائياً إلى الحزب أو المجموعة التي جاء منها، فقرار تفكيك قوى الحرية والتغيير واجب ثوري، يجب أن يقوم به أعضاؤها طواعية.

لقد أخطأت قوى الحرية والتغيير منذ البداية حين جلست تحاور العساكر بعد مجزرة فض الاعتصام، وهي جريمة نكراء لا يستحق من قام بها أن يؤتمن على مصالح الشعب السوداني. ثم إن الأحزاب التي تتكون منها قوى الحرية والتغيير وعدت الشعب بحكومة كفاءات، وقالت إنها لن تشارك بممثلين لأحزابها في الفترة الانتقالية، وتنازلت عن حق المكون المدني في إدارة حوار سلام جوبا وسلمته لحميدتي. فلما رأت الحركات المسلحة التي وقعت على السلام تهرع نحو الكراسي قبلت بالمحاصصات وأسرعت تنافسها لتحصل بقية الغنائم. وفي هذا الوقت كانت الحكومة يزداد فشلها وضعفها أمام المكون العسكري كل يوم حتى انقلب عليها ووضع رموزها في السجن، بعد إضعافها بالتآمر عليها مع الإخوان المسلمين، وقفل ترك عضو المؤتمر الوطني طريق الشرق والميناء ليخنق الحكومة المدنية.

وحين بدأت قوى الحرية والتغيير تصحح موقفها بعد رفضها انقلاب 25 أكتوبر، ووقفت ضد رجوع حمدوك للاتفاق مع المكون العسكري في نوفمبر 2021م، وبدأت تمد يدها للجان المقاومة وكل القوى الثورية، بعد أن ظنت لفترة أنها يمكن أن تنوب عن الجميع في قيادة الثورة وتقلد مناصب حكومتها، مع ذلك لم تخرج للشعب وتعترف بأخطائها السابقة، وتعلن عن موقفها الجديد الذي يخالف كل ماضيها.

الأستاذ ياسر سعيد عرمان، نائب رئيس الحركة الشعبية شمال، وعضو قوى الحرية والتغيير، وأحد الذين حاوروا الأمريكان والسعوديين باسمها، عرفته مناضلاً وطنياً وثورياً منذ أن كان طالباً في جامعة القاهرة الفرع، ولكن الرفيق مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية، وضعه في موقف لا يحسد عليه. فمالك عقار مؤيد لانقلاب العسكريين، ومشارك لهم في حكومتهم المعزولة عن الشعب. أكثر من ذلك، مالك عقار هاجم الثوار الذين يبذلون أرواحهم من أجل الوطن كل صباح، ووصفهم بأنهم أطفال يجب أن يذهبوا للعب، وأنهم لا يفهمون السياسية، وأن مظاهراتهم تعتبر تهديداً لأمن الدولة، وهذا يعني تبرير قتلهم، واعتقالهم وتعذيبهم حماية لأمن الدولة. فما هو موقف ياسر عرمان من رئيسه؟! هل يكفي أن يقول أنه يأسف لما قاله مالك؟! إذا عجز ياسر عرمان عن إدانة موقف مالك عقار المعادي للثورة، فإن انحياز ياسر لها يصبح مشكوكاً فيه، لأنه على الأقل يكون قد قدم مصلحة الحركة الشعبية وحمايتها من الانقسام على دماء الشهداء التي بارك عقار إراقتها، بل شجع العسكر على إهدارها، باعتبار أن الشباب ضد أمن الدولة.

إن ما يليق بياسر عرمان الذي عرفته هو أن يعلن انقسامه عن قيادة مالك عقار، فهو قد انشق من قبل عن قائد حقيقي مثل عبد العزيز الحلو حين اختلف معه حول قضية الحكم الذاتي، فهل يعجزه أن ينشق عن انتهازي نفعي ومستغل مثل عقار؟! الدبلوماسية والتكتيك لإبقاء الحركة الشعبية متماسكة ومحاولة المساومة والتغاضي والفهلوة السياسية لن تنفع ياسر بقدر ما ينفعه موقف ثوري واضح وشجاع يدين فيه عقار، ويقول إن موقفه لا يمثل الحركة الشعبية لتحرير السودان، وإنه منشق عنه، ليتبعه الأحرار الشرفاء في الحركة ويبقى الانتهازيون مع عقار.

وإلى أن يقف ياسر هذا الموقف الجدير به، على قوى الحرية والتغيير إن استمرت ككيان موحد جديد أن توقف نشاط ياسر لأنه نائب رئيس حركة انحازت قيادتها للانقلاب وأساءت للثورة والثوار، فلا يجوز أن يحاور باسم ثورة الشعب قبل أن يحدد أيهما أولى: انتماؤه للشعب السوداني وثورته، أم انتماؤه لحركة على قيادتها عقار؟!
إن الواجب المباشر الآن هو أن تتوحد قوى الثورة الممثلة في: لجان المقاومة، وتجمع المهنيين، ولجان المعلمين، وكافة الأحزاب والكيانات السياسية، بما فيها التي كانت في كتلة الحرية والتغيير بعد أن تحل نفسها وترجع إلى أحزابها، ومنظمات المجتمع المدني، وكافة الحركات المسلحة بعد أن تطهر نفسها من قادتها الذين شاركوا في الانقلاب، فتبعد: جبريل، وأردول، ومناوي، وعسكوري، والتوم هجو، وحجر، وبرطم، وغيرهم، والشخصيات السياسية الوطنية المستقلة، وتختار لجنة سياسية تقوم بالعمل السياسي المصاحب للعمل الثوري الذي يتم في الشارع. هذه اللجنة هي التي تحاور كل الجهات الدولية والإقليمية نيابة عن الثورة، وهي التي تجمع كل المواثيق، وتخرج منها بوثيقة واحدة. وهي التي وفقاً للوثيقة تجري تنظيم اختيار تجمع قوى الثورة للمجلس التشريعي، ومجلس القضاء العالي، ويقوم المجلس التشريعي باختيار رئيس مجلس الوزراء. هذه الهياكل إذا حددت بأسماء القادة فيها تصبح ورقة الضغط والمطالبة للمجتمع الدولي بالاعتراف بها إذا رفض العسكر التنازل طوعاً عن السلطة.

إن هناك دوراً كبيراً يمكن أن يلعبه السياسيون من خلال أحزابهم التي كانت متمثلة في قوى الحرية والتغيير في تكوين تجمع أوسع يضمهم وغيرهم من الثوار، فإن وقت انفرادهم بالعمل وحدهم نيابة عن الثوار قد ولى إلى غير رجعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.