أخوان السرة يمتنعون

0 76
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(أعيد نشر هذا المقال من 2010 عن الجلد القميء الشهير لامرأة الفيديو الشهيرة بواسطة الشرطة لمخالفتها قانون النظام العام سيء الذكر. واتفق لي إعادته هنا على ضوء مناقشة طويلة مع صديق حول انفصال سياستنا عن مجتمع متغير تغلب فيه البندرة (أي نشوء المدن، urbanization) عشوائياً لا يكتنفها علم بها يأخذ بيدها في الطريق الوعر للمستقبل. فقلت هنا مراراً إن البندرة التي تأخذ بخناقنا ما تزال مما يُحاكم بأعراف القرية. وهذا درك كبير لأن هذا بمثابة عدم اعتراف بظاهرة تقلقل حياتنا واعتزال لها على خطرها الذي يشقى به الناس بلا دليل. وهو خذلان للظاهرة دون وضع القواعد الجديدة لها التي بشر بها ود المكي:
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسيرْ
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْ
ولم تضع ثوراتنا منذ 1964 هذه القواعد لأن من هي بذمته لم ير من الديكتاتوريات التي خيمت علينا سوى رموزها (البشير البشكير ونميري طيش حنتوب) لا أنها القواعد المضادة لقرارنا على التاريخ “وتركيب الحياة القادمة”. وأول هذه القواعد أن نعرف من أين جاءت (لا أن نستغربه) لأن حربها بغير معرفة لمنشئها حرب في الظلام.
أردت بكلمتي القديمة هذه التنبيه للنظر لجلد الفتاة لا كمجرد حدث سياسي للإثارة فحسب، بل كحدث اجتماعي نضع به نحو grammar الحياة القادمة.
كان بعض ما أ غرانا بدخول جامعة الخرطوم في أول الستينات توافر الفرصة للاجتماع بالجنوبيين و “خلطة” البنات. فقد كان هذان المخلوقين غياباً في مدينة عطبرة. كانت النساء في الخدور يخرجن لدى الضرورة بالبلامة. ولم يكن الجنوبيون قد بدأوا موسم رحلتهم للشمال بعد. وخلال نصف قرن كنت شاهداً على بؤس تعاطينا مع هذين المخلوقين اللذين شوقاني للجامعة. فقد تسرب العمر بين يدينا في جهد بلا طائل لإخضاعهما. أما الجنوب ف”تطلب الله” أو كاد فارزاً عيشته. أما المرأة فلن تنال حق تقرير مصير بالطبع لتهجرنا إلى بلاد الله. وستنتظر.
فيديو الفتاة الذي سارت بذكره الركبان حالة سودانية. ومن أراد مواقعته على دولة الانقاذ وكفي ضل عن معناه. إذا استثارك الفديو وجدد في نفسك كرهك ل”الكيزان” فأنت عالة عليه لا مُعيناً على قضيته. فليس هذا الفيديو لك إذا لم يفعل سوى تذكيرك بطالبان أفغانستان، أو بالجاهلية، أو رأيت فيه عاراً سيطارد الكيزان الذين تصفهم ب”الزبالة” أو “السفلة” أو ما شئت إلى يوم الدين. أو لعنتهم ب “خسئتم”
لست أنت نصيراً لفجيعة الفيديو إذا استفز مشهده رجولتك فدنس شرفها. أو إذا نظرت إليه بعيون “أخوك يا السرة”. او استهجنت الشرطة حمّالة السوط بوصفهم “جلادي حرائر بلادي”. أو كرهت الطائفة المتفرجة متسائلاً: أين الرجولة؟ واصفاً إياهم ب”أخناث الشعور والنخوة”. أو نعيت الرجالة التي انتهت وتمنيت لو “لبسوا طرحة” في يومهم ذاك. ولا أخشى على مغزى الفيديو إلا ممن ظل يبحث في الفديو عن “ذرة رجولة” ولم يجدها. وأخشى للغاية ممن أحس بثقل النصوص القديمة على عاتقه من فرط إهانة الفيديو لفحولته:
ما يكرمهن (النساء) إلا كريم وما يهنيهن إلا لئيم
وسيغيب مغزى الفيديو عمن ظن أن دوره في تعاطي الفديو انتهى ببثه في وسائط الغرب. فهي وحدها التي ستفضحهم بجلاجل، فضيحة عالمية، وتجعلهم أقل من السمسة. وخسئتم أيها الأبالسة.
أخشى على مغزى الفديو ومستحقاته من مثل هذه النظرات واللغة التي لا ترى من جبل جليد الإساءة للمرأة وصقيعه سوى رأسه الطافح. فالفديو يعكس توظيفاً مبتذلاً من جانب الدولة لنسق البطراكية (الأبوية). وهو النسق الذي يجعل تعنيف المرأة وضبطها بيد الذكور. والراجل كلو ولي المرأة. وهو امتياز لم نر من الرجال من تبرأ منه إلا من رحم ربي. ولم يبرح هذا النسق ذاكراتي وأنا طفل بالقرية أشهد بباحة خلوة قرية القلعة بمركز مروي رجالاً يضربون بالسياط نساء جزاء وفاقا.
لم تقم الدولة بما اقترفته في الفيديو كفاحاً بل استصحبت هذا النسق الأبوي الذي ينطوى عليه كل رجل “أخو السرة”. لقد احتكرت الدولة العنف ضد المرأة كاحتكارها حق قتل المواطن خلال المحاكم الطبيعية خارجها. وتجدها تسن في نفس الوقت القوانين تجرمه على الرجال الآخرين. وعادة ما تواطأت مع الذكور وغضت الطرف عن فعائلهم. ومن قرأ صحف الجريمة او صحافتها لهاله تزايد وتيرة العنف على المرأة في الأسرة السودانية في سياق ضغوط الإفقار والصدمات الثقافية التي تتعرض لها. تقرأ عن الفتي الذي جز شعر أخته صلعة ليمنعها من الخروج من البيت. أو تقرأ للرجل الذي كسر ساق زوجته لنفس الغرض. وقد شٌقّ على الناس مؤخراً تواتر جرائم رش وجوه نساء بالصودا الكاوية للثأر منهن.
سيخطئ من حمل تعذيب فتاة الفيديو كعيب أخلاقي للحكومة وحسب. هذا النسق الأبوي ضارب الجذور. ولا نقول هذا تلطفاً بالإنقاذ فهي نفسها لم تعد تكترث لمعددي سقطاتها من فرط العيارات الكثيرة التي لا قتلتها ولا دوشتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.