يوم دعا عبد الله الطيب الي حل العاصمة

0 74
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
استمعت أمس إلى قصيدة لأم عن تغير الزمن في فيديو مرسل من ابننا مجدي حليبي. فكانت الأم حملت براد شاي ساخن على يدها. فأشفق عليها ولدها حسام وقال لها ألا يحرقك. فقالت له: لا. فيدها من صنع القرى الغبشاء لا المدن السحسوحة. وخرجت من الواقعة بقصيدة جاءت بكل مفردة في المدن (حتى حفلات التخريج الغناء) لتَنْقض عليها بشيء من القرية أطيب وأمتن وأتقى. وجاءتني القصيدة على وتيرة قولي إننا نعيش مدينة محاكمة في حركاتها وسكناتها بالقرى المقدسة لا بما صح للمدن أن تكون. وختمت الأم قصيدتها بقرارها أن كل مفردات المدينة التي جاءت بها في مسردها إنما هي مؤامرة مبيتة على تقاليدنا وديننا. والطريق قصير جداً من مثل مزاج قصيدة الأم إلى الدولة الدينية. وعليه فالدعوة للدولة الدينية ليست تدبيراً كيزانياً صرفاً. هو ذلك، ولكن بمزاج كمزاج هذه السيدة لم يتصالح مع مدينة تكيف حياتها ولا شرعية لها في نظرها مع ذلك. فالشرعية ما تزال مع “الشايله الحليله مع الصباح، يا يما”.
واستعيد هنا ذكر حديث لي في الستينات مع بروفسير عبد الله الطيب دعا فيه لحل المدن:
لم نكن في يسار الستينات ممن يهش لفقيد العلم البروفسير عبد الله الطيب. كان يهزأ بالشعر الحديث الطالع وكنا نحب ذلك الشعر كعقيدة سياسية وأدبية. وكنا قد استقبلنا ديوانه الأول “أصداء النيل، 1957 ” بسلبية لوعورته ولقصيدته التي استنكر فيها تمرد توريت عام 1955 ووصفه له بثورة الزنج وهي ما وقع من رقيق الزراعة الأفريقيين بالبصرة عام 868. وكان من بين من استاءوا من القصيدة المرحوم جوزيف قرنق وكتب عنها في جريدة الميدان. وحجبت عنا هذه الواقعة “السياسية” الرجل وحصائله الثقافية.
تقاطعت دروبي عابرة مع الفقيد. رأيته أول مرة في نحو 1960 “يضرع” على شارع الجامعة وقد عاد من نادي الزوارق على شاطئ نيل جامعة الخرطوم. واستغربت للعالم الرياضي. وكان منتهي علمنا أن الأدباء قبيل من المعلولين الممروضين. ثم درست عليه العروض في السنة الثانية بآداب الخرطوم وقد خطفني مني ب “الراس المقدود”.
وكنت قد أنست به في منتصف الستينات في حضرة سيدي وحبيبي المرحوم محمد المهدي المجذوب. وربما زكاني المجذوب له. فقد كان يؤثرني بالفضل. وكنت قد قرأت للمرحوم “من نافذة القطار” ولا اعرف ما يعدلها في مذكرات أبناء جيله. فهي مَعَبر الي حياة تتشكل وتعكر وتصفو أمام أعين القارئ. بينما مذكرات الآخرين إعادة إنتاج التاريخ المعلوم بصوت آخر. وقد أكمل المرحوم جميله بإصدار الجزء الثاني من مذكراته في الثمانينات (وقد كان يكره عجمتنا هذه) وعنوانه “من حقيبة الذكريات”. فأظفر به أيها القارئ، إن فاتك، تربت يداك. وقرأت له “الأحاجي السودانية” وقررت انه ليس من الكياسة في شيء أن أواصل إضرابي عن عوالم وموارد الرجل الغراء.
وقررت في هدأة الاختفاء في حلقة الشيوعيين السرية على أيام نميري (1973-1978) أن انفذ الي دخيلة الرجل الابداعية. وعكفت أقرأه من أوله إلى آخره ما استطعت. وكتبت في الختام كلمتي عنه المعنونة “عربي فلا يُقرأ” (في كتابي المعنون أنس الكتب). ووصفت فيها إضراب المحدثين عنه كخمول همة. وقلت إنني أكتب عن الرجل وقد نزعت ولاء الخنادق الي ولاء الحقائق. وأعانني على الكلمة ضيقي مما لمسته عن كثب من كساد الشغف بعلم العربية بين الشيوعيين الذين خرجت من بين صفوفهم بالكاد بعد تحبير المقال. وشكل المقال ميثاقاً روحياً مبتكراً لي أطلب فيه الحق لا ألوي على شيء.
وطالما انشغل الناس بأمر العاصمة وفقهها (خلال مفاوضات الإنقاذ والحركة الشعبية) أذكر مناقشة طريفة لي مع المرحوم في دار المجذوب بجهة كبري الحرية. وكنت والمجذوب نستعد للسفر الي موسكو في يونيو ٦٧ موفدين من اتحاد الادباء السودانيين. وأذكر كيف أوصي المرحوم حبيبنا المجذوب أمام باب الطائرة ألا يعود من موسكو ولم ير السنور، يا لله.
كان مما شغلنا آنذاك في اعقاب “انتكاسة” ثورة أكتوبر كيف نؤمن للمدن، التي تنفذ التغيير السياسي، ثقلاً سياسياً في الانتخابات يلطف غلواء الريف الطائفي. وهو ما عرف بدوائر القوي الحديثة منذ ذلك الزمن. وكنت أدعو للفكرة وكان المرحوم يسخر منها. وقلت له: عندك العاصمة مثلاً . . .ولم يتركني أكمل وقال: تعرف رائي في العاصمة؟ قلت: ماذا؟ قال بهدوء جم: نحلها. ولم اصدق أذني.
ولم يزد العالم النحرير عن أم حسام الشاعرة بكفها الريفي الصلد بشيء: حل المدينة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.