الدولة السودانية وفكرة “الرهينة”.. جهاز الدولة كسمسار في آخر مآلات الاختطاف
كتب: د. بكري الجاك
.
في الأشهر القليلة الماضية، كتبت في عدة مقالات عن حقيقة أن الدولة السودانية مختطفة بالكامل بواسطة أجهزة تسخدم جهاز الدولة كواجهة لاكتساب شرعية سياسية واجتماعية لتقنين الكثير من الأنشطة الاقتصادية وغير الاقتصادية المشبوهة. عملية الاختطاف هذه لها عدة واجهات وأشكال من التجليات في شكل سلوك سياسي واقتصادي واجتماعي، ليس لي حاجة للاستشهاد على هذا الاختطاف، فحقيقته أصبحت من الوقائع المعروفة المبذولة للعامة، حتى للذين لا يتدبرون في حالنا العام كثيراً.
وإن كان لابد من الاستشهاد، فما رشح عن أن مجلس السيادة رد رسمياً للمحكة قائلاً إنه لا علم له بالجهة التي اتخذت قرارات بإلغاء مهمة مجالس الجامعات وإنهاء خدمات مدراء الجامعات العامة، في رد على شكوى أساتذة جامعة الخرطوم، على قرار إعفاء مجلس الجامعة الذي تمت إعادة تشكيله بواسطة رئيس الوزراء المستقيل، الدكتور عبد الله حمدوك. كون أن مثل هذا الأمر قد حدث حقيقة لا يثير الدهشة لدي البتة، بل ما يدهشني أن هذه البلاد ما زال بها مطار يعمل وتهبط فيه طائرات آناء الليل وأثناء النهار، فهذا أمر أشبه بالمعجزة في حالة الشلل التام التي أصابت كل جهاز بالدولة.
سياسياً، كنت قد كتبت في يناير الماضي أن السلطة الانقلابية تتعامل مع السودانيين كرهائن، وقبل أيام رشح في الوسائط تعليق مسؤول أمريكي على أن هذا يعبر عن ما لمسه في حواراته مع القادة العسكريين في تفسيرهم وفهمهم لطبيعة الأزمة في البلاد. ليس هناك شيء مفاجئ، فقائد الانقلاب الذي لا سلطة كاملة له أيضاً اشتكى من قطع الكهرباء في خطابه إبان افتتاح أسواق أم درمان، ونسب ما يحدث من قطوعات الكهرباء إلى المجهول، وكأنما هو ليس الرجل الذي قال لنا في 25 أكتوبر إن البلاد أوضاعها أصبحت لا تطاق، وإنه أتى لإصلاحها.
في ظني، هذا بالضبط هو المنهج في نظرهم، إذ إن الشعب السوداني رهينة، وسيفاوض قادة الانقلاب على سلامته مقابل حصة ما من السلطة والنفوذ في معادلة التوازن السياسي على ضعفها البائن. المترددون على الدلالة، ومعاشرو السماسرة، يسمعون كثيراً عن فكرة الرهينة التي يستخدمها السمسار ما أن يقع أحد الراغبين في بيع أو شراء عربة ويسلم أمره للسمسار. عملياً اللغة التي يستخدمها السماسرة فيما بينهم أن هذا الزبون أصبح رهينة و لا مفر له لتدبير أمره إلا بإرادة هذا السمسار. ليست هنالك غرابة في الأمر، فالتشوهات الهيكلية التي طبعت الاقتصاد السوداني وأنشطته منذ عقود جعلت من أسعار العقار في الخرطوم تقف في مصاف مدن مثل طوكيو ولندن ونيويورك وسان فرانسيسكو.
ولا أعتقد أن أي عبقري اقتصادي يعمل بقانون العرض والطلب بإمكانه تفسير أن هنالك مسوغاً موضوعياً لأن يكو هنالك سعر شقة في الرياض، حيث لا خضرة و لا ماء و لا مدارس ولا خدمات تباع بمبلغ (180) ألف دولار. والتفسير ليس في العرض والطلب، وإنما في التشوه الكلي الذي يجعل من العقار أهم وسيلة لتخزين قمية الثروات في ظل انهيار وتراجع قيمة العملة المحلية، فالعقار والدولار والذهب هي أفضل الوسائل للحفاظ على الثروات، وفهم مثل هذا التشوه لا يمكن أن يتأتى بتطبيق المنطق الخطي وعلاقات السببية المباشرة التي تقوم عليها النظرية الاقتصادية، وإنما بعوامل اقتصاد سياسي للتشوه العام الذي على رأسه التشوه الكامل لكل النشاط الاقتصادي الذي في طريقه لإخراج ما تبقى من المنتجين، في ظل ارتفاع كلفة الإنتاج بما هو أعلى من قدرة الأسواق المحلية في دعم عملية إنتاجية بأسعار مجزية. فأصحاب مزارع الألبان يقومون الآن بذبح بهائمهم وإنتاج البيض، في تراجع مستمر، وجل الأراضي الزراعية لم تحضر ونحن في أواخر يونيو، وحتى النفرة الشعبية لشراء القمح لن تغير في هذه الخلل البنيوي حتى وإن انقذت المزارعين لهذا العام، هذا التشوه أصبحت له تجليات سياسية في جهاز الدولة وسلوكه العام.
فكرة الرهينة هي التي تحرك كل جهاز الدولة، خصوصاً تلك القطاعات التي يذهب إليها الناس لقضاء أي إجرء إداري، بدءاً من السجل المدني وانتهاء بأي معاملة مثل شهادات التأثير البيئي. ما أن تدخل إلى فضاء أي جهاز حتى تكتشف أنك محض رهينة لهذا الجهاز، وهنالك عمليات معقدة من التكسب يقوم بها العاملون في هذه الأجهزة للتربح وتوظيف هذا الجهاز كدولة موازية ووسيلة لتحقيق مصالح اقتصادية لصناع القرار فيه. القطاعات التي ليس لها تعامل مع الجمهور هي الآن في عداد الموتى، ولا يمكن القول بأنها تعمل بأي حال، هذا السلوك هو نتاج مباشر للنشاط الريعي الذي يطبع الاقتصاد السوداني وأنشطته بشكل عام، وهي أيضاً نتاج علاقة مباشرة بفكرة “رهينة” الدلالة، فهل هنالك سمسار أكبر من جهاز الدولة في آخر مراحل انحطاطه؟! حيث لم يعد هنالك معنى لفكرة المواطنة البتة.
خلاصة القول
إننا نشهد تطوراً جديداً لتجليات سلوك هذا الجهاز في إحدى محطات انهياره، ولا أعتقد أنها ستكون آخر التجليات. فإذا ما استمرت حالة توازن الضعف في معسكر الانقلاب وغياب قدرة أي طرف فيه لاتخاذ قرارات إنهاء هذه المهزلة، فإننا موعودون بأفلام وقصص قد تصبح وكأنها من خيال كتاب الواقعية السحرية.
بداية خلاصنا في توحد القوي الثورية حول رؤية متكاملة للانتقال وليس بالضرورة في كيان سياسي، هذا أول الغيث في الطريق إلى 30 يونيو.
السلطة سلطة شعب