الفشقة: مرة اخرى الحرب توظيف سيء لخيال أسوأ عندما تمتحن الثورة والحرب بقاء الوطن
كتب: محمد فاروق سليمان
.
خبر مقتل مواطن وسبعة جنود جميعهم سودانيين من قبل الجيش الاثيوبي اصبح مدعاة لانقسامنا وفق استعداد الجميع للتشكيك بكل شيء، فالعقل السوداني الان لا يقبل بشيء ولا يحكمه غير منطق واحد: عدم قبولنا ببعضنا، ويتجاوز هذا العقل في بؤسه الان تهديد بقاءنا معنا، لتهديد وجودنا جميعا، ليس لان الصراع مع اثيوبيا اصبح نذر حرب وشيكة، لا قبل لنا بمواجهتها من غير التفافنا حول قواتنا المسلحة، وخلفها تحديداً،.
فاثيوبيا نفسها تحدياتها الداخلية لا تقل عما يفعله السودانيين ببعضهم، وقد كان لاحداث في السابق لا تقل عن وحشية اعدام السودانيين الان، لاعدامات تمت بحق مدنيين من التقراي في مدينة الحمرة حملت جثامينهم مياه خور ستيت لداخل الحدود السودانية خريف ٢١ في يونيو، ترقى للانتهاكات الجسيمة، كان لهذه الاحداث ان تلفت الانتباه لانفلات الوضع هناك، وخضوع الحرب الاهلية الاثيوبية لرغبات ومطامح الاطراف المشاركة فيها بشكل مبالغ بطريقة مستقلة عن قدرة القوات النظامية الفيدرالية على السيطرة عليها.
وبعيدا عن تسميات مثل مليشيات الشفتة او الامهرا، فالجيش الاثيوبي الفيدرالي نفسه وبعد انهزام نظام الدرك او حكم منقستو اصبح يتكون من تحالف قوات ذات طابع اثني من مليشيا ثورية قادت مقاومة منقستو، وظلت متحالفة مع الجبهة الشعبية الاريترية في حربها هذه لتنال ارتريا استقلالها فور سقوط منقستو عبر استفتاء اجرائي اوائل التسعينات، وقد طغت هذه الطبيعة الاثنية للجيش الفيدرالي بعد الحرب الاهلية هناك، وحرب انفاذ القانون ضد اقليم التقراي التي قادها ابيي احمد مؤخرا، فقد لعبت جبهة تحرير تقراي TPLF دورًا محوريا في تشكيل اثيوبيا بعد نظام الدرك، وقد كان للسياسة التي اتبعها التحالف الحاكم بقيادة التقراي طوال فترة حكم الرئيس الراحل مليس زيناوي التأسيس لتحولات كبيرة لشعوب اثيوبيا سواء على مستوى التنمية او ترسيخ النظام الفيدرالي.
الاتهامات بهيمنة التقراي على الحكومة الاتحادية قادت لاحتجاجات كبيرة ومنذ حياة الرئيس مليس، لتنتهي محاولات هايلي مريام ديسالين؛ رئيس وزراء اثيوبيا الذي خلف مليس زيناوي، وهو اول حاكم لاثيوبيا لا ينتمي للامهرة او التقراي، (فهو من اثنية من شعوب جنوب اثيوبيا وبروتستانت وليس ارثوذكس شان الكنيسة الاثيوبية، مشكلاً اقلية باكثر من معنى)، انتهت هذه المحاولات الى صعود نجم أبيي احمد السريع، بعد استقالته من منصبه لاحتواء احتجاجات الارومو المتصاعدة وقتها.
من المهم الانتباه وفق هذه الخلفية للصراع الاثيوبي-الاثيوبي نفسه، وطبيعة القوات الفيدرالية هناك والتي لم تخضع لسيطرة الحكومة الفيدرالية بشكل كامل يوما منذ سقوط منقستو، وبعد وفاة مليس تحديدا، باكثر من خضوعها لاطراف على “الأرض”، كبار مزارعين من الامهرة في منطقة الفشقة، ومع اتهامات بالتدخل الاريتري لا يمكن اغفال ايضا قوات دفاع تقراي نفسها TDF، والتي تشكل الطرف الاخر في حرب القرن، والحليف للجيش السوداني ايضاً ومنذ اندلاع الصراع في بادمي مع ارتريا في النصف الأخير من التسعينات. لذا من الممكن ان تكون الاحداث الان استمرار لنفس التصرفات التي قادت الى استشهاد رائد في الجيش السوداني في منطقة بركة نورين، ولم يتم تحميل الجيش الفيديرالي الاثيوبي وقتها المسؤولية، وفق نفي رسمي شبيه بما اصدره الان.
من المهم الوعي بتحديات الامن القومي في منطقة القرن الافريقي، وتبدل المواقف وتغيرها في ظل الصراع الوطني وعدم الاستقرار السياسي الداخلي، وامكانية تطور الحروب الاهلية لصراع اقليمي دائما، ومنذ ايام مقاومة نظام الانقاذ في بداياته ووجود التجمع الوطني الديموقراطي في اسمرا واديس ابابا كمركز لنشاط المعارضة المسلح والسياسي واحتضان القاهرة لرموز المعارضة اسوة بنيروبي وكمبالا، مما يجعل مسالة التنمية والتحول الديمقراطي مرتبطة بأي استراتيجية للامن القومي في ظل مهددات مجتمعات المنطقة والمتمثلة في الفقر والاختلال وعدم الاستقرار السياسي.
تظل الحرب والتبشير بها من اي كان توظيف سيء لخيال أسوأ، فاي حرب في المنطقة كفيلة بتفاقم ازمات الفقر والانتهاكات التي تتم داخليا في كلا السودان واثيوبيا. ولن يكون لنضال الشعوب في المنطقة للاستقلال والتحرر وتحولها المدني الديمقراطي اي فائدة من اشتعال هكذا حرب بين شعوب منهكة من فشل انظمة الحكم الوطني وتمر جميعها بانتقال سياسي يضعها امام خيار تاريخي للانعتاق والانطلاق او الضمور والتفكك، وفي ظل تنامي فرص الحرب يتناقص دور المجتمع المدني وحتى فرص تطوره، ويصبح التفوق الداخلي للقوى الامنية والعسكرية، وبينما تضمن الحرب صعود النخب العسكرية نرى ضمور النخب المدنية حتى في عجزها عن رفض الحرب بشكل مبدئي والتبشير بخيار آخر!
لسنا امام خياري الحرب او الخضوع امام شبح المواجهة في منطقة الفشقة في الحدود مع اثيوبيا، وشروط دخول اثيوبيا في حرب اقليمية اقل الان قبل أي مصالحة مع قوات دفاع التقراي القوة الاكثر تنظيماً، وصاحبة الاثر المباشر في استرداد الجيش السوداني لمنطقة الفشقة الكبرى والصغري اثر اندلاع الحرب الاهلية في اثيوبيا، وان يبقى الاستعداد للحرب هو الوقاية الضرورية منها لذا تصرف الشعوب على جيوشها حتى في حالة السلم.
على طول منطقة ما يعرف بدول الخاصرة للحدود السودانية في منطقة حزام السافانا (ارتريا، اثيوبيا، جنوب السودان، افريقيا الوسطى، تشاد)، يضطلع السودان بدور اهم واكبر من وعي النخب المدنية والعسكرية الان، والتي تتصدر الموقف الداخلي وفق ترتيبات الصدف وليس الجدارة، فالسودان ولموقعه الجيوسياسي قدره ان يكون دولة كبرى (او كما يقول الصديق هاشم مطر: السودان مكانه محجوز بين الدول العظمى) وفق اي تكامل اقليمي لدول القرن الافريقي ومنطقة شرق ووسط افريقيا، ويتمدد هذا الدور الان غرباً وفق متغيرات جديدة دولية واقليمية وداخلية، مما يجعل نجاح الانتقال السياسي في السودان الان عاملا مهما للاستقرار في المنطقة، وهو تحدي يجعلنا ننطر لعجز السودان الذاتي عن الاضطلاع به قبل الحديث عن الاستهداف الخارجي له ولدوره الاقليمي.
عندنا اندلعت الحرب الاهلية في اثيوبيا كان د. حمدوك رئيس الوزراء وقتها، رئيسا للايقاد في دورتها الحالية، لكن اولويات السودان وفق الحرب نفسها وقفت دون ان يكون له دور في ايقافها، او ان يلعب السودان دورا في السلام الاثيوبي، فحسابات الجيش قامت على استرداد الفشقة أولا وبالتالي ظلت نظرة الحكومة الاتحادية في اديس للسودان كحليف لجبهة التقراي، والغريب ان انقسام السودانيين بين مدنيين او عسكريين قد اغرى حتى حكومة ابيي احمد لتوظيف هذا الانقسام لصالح موقف من دعم جبهة تحرير التقراي! لكن من المهم كان النظر للدور المختلف الذي كان يمكن ان يلعبه السودان في استقرار وسلام المنطقة اذا كان اكثر اتساقا مع ثورته وقوة بها بدلا من هذا الانقسام وعدم قبوله ببعضه، والذي يمكن النظر اليه كواحد من تعزيز فرص الحرب داخل اثيوبيا قبل الحرب معها!!