السودان.. بين يدي مواكب 30 يونيو
كتب: بابكر فيصل
.
في مطلع الأسبوع الجاري، أكمل الانقلاب العسكري الذي قام به قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021 شهره الثامن وسط تدهور مريع في الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية بالبلاد وبالتزامن مع دعوات أطلقتها مختلف قوى الثورة للخروج في تظاهرات ومواكب سلمية يوم الخميس 30 يونيو من أجل إنهاء الانقلاب واستئناف مسار التغيير المدني الديمقراطي.
الطريق المسدود الذي وصل إليه الانقلاب في الناحية السياسية انعكس في العجز التام عن استكمال هياكل الانتقال وفي مقدمتها تكوين السلطة تنفيذية، حيث ظلت البلاد بلا وزارة أو رئيس وزراء مما أدى إلى فراغ كبير انعكس في الطريقة العشوائية التي باتت تدار بها الأمور ويتخذ بها القرار الحكومي، كما استمرت العزلة الإقليمية والدولية التي تسبب فيها الانقلاب وهو الأمر الذي أدى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي واستحكام الأزمة المعيشية.
أما التدهور الاقتصادي المريع فقد تبدى في العديد من المؤشرات منها الارتفاع الكبير للتضخم، والذي أوضحه التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي الذي قال أن (السودان سجل أعلى معدل تضخم في إفريقيا عام 2022، حيث بلغ حوالي 245٪ بسبب الأزمة الاقتصادية طويلة الأمد وعدم الاستقرار السياسي)، فضلاً عن العجز الكبير في ميزانية الدولة، مما أدى لارتفاع الضرائب بمعدلات غير مسبوقة.
ومن ناحية أخرى فإن موقف الأمن الغذائي في البلاد أضحى في غاية الخطورة، ليس فقط بسبب العامل الخارجي المتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية، بل بسبب الإهمال والسياسات الزراعية الخاطئة التي كان آخرها عجز الحكومة عن شراء القمح من المنتجين المحليين، مما ينذر بقدوم كارثة في الأمن الغذائي (مجاعة) حيث تقدر بعض المنظمات المختصة بأن 40 في المئة من سكان السودان سيواجهون نقصا حاداً في الغذاء بحلول شهر سبتمبر.
أما الانفلات الأمني فقد تفاقم بشكل كبير، بسبب العامل الاقتصادي وضعف أداء المؤسسات الأمنية وعدم الاستقرار السياسي وانعكس ذلك في إرتفاع معدلات الجريمة في الأرياف والمدن، كما استمر التوتر الاجتماعي والنزاعات القبلية في العديد من ولايات السودان (دارفور على وجه الخصوص) مما أدى لوقوع مئات الضحايا ونزوح الآلاف من المواطنين من مناطق سكنهم.
وأمام هذه المخاطر الكبيرة، فقد أظهرت مختلف القوى الثورية تمسكها القوي بضرورة هزيمة الانقلاب وتحقيق مطالب الثورة المتمثلة في قيام الحكم المدني الكامل وابتعاد العسكر عن السياسة، حيث استمرت المقاومة السلمية للانقلاب طيلة الثمانية أشهر الماضية مما أدى لسقوط 102 شهيد وجرح العشرات فضلا عن اعتقال المئات من الثوار.
وقد بدأت تلوح في الأفق بشائر التقارب بين مختلف القوى الثورية من أجل تحقيق التغيير المطلوب، وآية ذلك اللقاءات الجماهيرية والندوات المشتركة بين مختلف القوى السياسية (وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة والرموز الوطنية) التي عُقدت وما تزال تعقد في مختلف أحياء العاصمة القومية والولايات، مما سيغلق أكبر المداخل التي عملت من خلالها السلطة الانقلابية على تفتيت قوى الثورة.
أما معسكر القوى الانقلابية فقد بدا عليه التصدع والانشقاق ، حيث بدأت بعض الحركات المسلحة والأحزاب التي أيدت الانقلاب في محاولة الهروب من المركب الغارقة بإعلانها المشاركة في مواكب 30 يونيو التي دعت لها القوى الثورية، كما أن بعض القوى التي استعان بها العسكر في إضعاف الحكومة الانتقالية من أجل التمهيد للانقلاب عليها قد دبت فيها الخلافات وبدأت في التفكك بسبب التباين في مصالح العسكر أنفسهم (مثال ما حدث في المجلس الأعلى لنظارات البجا).
ومن طرف آخر، ما تزال القوى الإقليمية والدولية الكبرى تواصل مطالبتها بضرورة إنهاء الانقلاب العسكري وتكوين حكومة مدنية ذات مصداقية، وهى الشروط والاستحقاقات التي يجب الوفاء قبل أن يستأنف المجتمع الدولي والمؤسسات المانحة التعاون مع السودان في المجالات المالية والاقتصادية، وهو التعاون الذي بدأ مع الحكومة الانتقالية التي تم الانقلاب عليها وقطع أشواطا بعيدة في مجالات إلغاء الديون وتقديم المنح والقروض والإصلاح المؤسسي في القطاع المالي والمصرفي وغيرها.
وفي ظل هذه المعطيات تأتي الدعوات لمواكب 30 يونيو كحلقة مهمة من حلقات العمل التراكمي الهادفة لتحقيق شعارات الثورة، حيث تستمر عملية التعبئة الجماهيرية بنجاح كبير في جميع نواحي البلاد وبين السودانيين في المهاجر المختلفة مما يؤكد أن جذوة الثورة ما تزال متقدة في النفوس برغم الظروف الاقتصادية القاسية والممارسات القمعية والحملات الإعلامية المضللة من قبل العسكر الانقلابيين وأشياعهم.
ومن بين أهم الأهداف المعلنة للمواكب والتظاهرات السلمية هو ضرورة إنهاء الانقلاب وتشكيل حكومة مدنية كاملة ومحاسبة المتورطين في قتل الثوار وتفكيك النظام البائد والإصلاح المؤسسي للقوات النظامية والأجهزة العدلية، فضلا عن البدء في عملية دمج مختلف القوات والحركات المسلحة وصولا للجيش الوطني الواحد، ومن ثم الإعداد لقيام الانتخابات العامة.
لا شك أن الأفق مسدود تماماً في وجه الانقلابيين ولن تكون نتيجة السياسات التي يتبناها العسكر حاليا سوى المزيد من زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي والانزلاق بالبلد نحو الفوضى الشاملة والتمزق، ومن المؤكد أن جميع الممارسات القمعية لن تصمد أمام التصميم الكبير الذي أبداه الشعب السوداني على تحقيق شعارات ثورته المستمرة منذ ديسمبر 2018 وحتى اليوم.