حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (15 من 19)
كتب: د. عمر مصطفى شركيان
.
دانيال دينق سرور
وأخيراً هناك دانيال فيرم دينق سرور صاحب المواهب اللغويَّة المتعدِّدة، وهو الذي كان ينتمي إلى قبيل دينكا نقوك، ثمَّ هو الذي كان قد ولد العام 1860م في بحر العرب. وحينما كان عمره 11 عاماً وجد نفسه في العبوديَّة، حيث اُقتيد مع والدته رقيقاً في أيدي تجار الرِّق في اتجاه مدينة الأُبيِّض، ومن ثمَّ انتهى به الأمر في ملجأ البعثة التبشيريَّة. إذ وجد الابن والأم نفسيهما في أمان، ومن ثمَّ شرع مدير كمبوني في تعليمهما الدروس في العقيدة المسيحيَّة. ومع تقدُّم الشاب في العمر، وتعلُّم قدراً من الدروس قرَّر مدير كمبوني إرساله إلى فيرون في إيطاليا العام 1876م، ومن ثمَّ إلى الكليَّة الرومانيَّة العام 1877م.
مثل دانيال كمثل كثرٍ من السُّودانيين الآخرين، الذين تعرَّضوا لمشكلات صحيَّة في البيئة الجديدة التي لم يألفونها في حياتهم الأولى، فلقد غادر إلى لبنان في الفترة ما بين (1883-1886م)، ومن ثمَّ عاد إلى القاهرة للانضمام والتعرُّف على مدير كمبوني الجديد سوقارو في يوم 8 أيار (مايو) 1887م. وأخيراً سافر دانيال إلى سواكن وقضى في كنيستها عامين، وفي العام 1889م رافق أسقف المستقبل في الخرطوم قبيل رحلته إلى أوروبا، وكانت هذه الرحلة للتعرُّف على قارة أوروبا. رجع دانيال سرور من رحلته إلى القاهرة العام 1900م، ثمَّ لحقه الموت سريعاً. لقد توفي بمرض رئوي كما ذكرت الكليَّة الرومانيَّة. إلا أنَّ من المعلوم عن دانيال أنَّه كان متميِّزاً في منحته الدراسيَّة، حيث كان يتحدَّث اللغات العربيَّة والإيطاليَّة والإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة، وكذلك كان يمكنه كتابة لغة الدينكا، ومتميِّزاً بشاعريَّته كان أيضاً. كما كان لديه عقليَّة ذكيَّة وتطبيق محكَّم، مما مكَّنه أن يتقدَّم سريعاً في الآداب والعلوم؛ كذلك كان موفَّقاً تماماً في شاعريَّته وملاحظته للقوانين وحسن التدبير.
إذ يعتبر دانيال سرور من السُّودانيين الخمسة الأوائل الأفذاذ في القرن التاسع عشر، وكان لا بدَّ من إضافة مجموعة أخرى شابة تكوَّنت بواسطة المبشِّرين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، لكن للأسف لم يستطع النَّاس أن يتعرَّفوا عن أصولهم، والمناطق التي منها تمَّ استرقاقهم. أيَّاً كان أمرهم، فعلاوة على إجادته للغات المقروءة والمكتوبة التي ذكرناها آنفاً، كان دانيال رجلاً تقيَّاً ثمَّ ذكيَّاً كان، وربما كان هو أوَّل دينكاوي قام بإعداد الكتابات الخاصة بقبيلته وعاداتها. لقد كتب دانيال العام 1888م سطوراً تعتبر دليلاً متحرِّكاً لاهتماماته الكنسيَّة والمعرفة الجيِّدة بالمستقبل العقدي، ولفخر إنسان يتبع إلى أكبر قبيلة والأكثر سواداً في السُّودان كما تمَّ وصفه في السجلات الكنسيَّة.
دروس وعبر
مهما يكن من شيء، فإنَّ اعتناق هؤلاء الأرقاء الديانة المسيحيَّة لم يكن بمحض إرادتهم، وكذلك لم يتم إجبارهم عليها، ولكنهم وجدوا أنفسهم منغمسين فيها عن طريق الترغيب تارة، والمعاملة الحسنة التي غمرتهم بها هذه العقيدة الجديدة بالنسبة لهم تارة أخرى. كان دخولهم في كهنوت المسيحيَّة قد حرَّرتهم من العبوديَّة بكل ما تحمله علاقات مجتمع العبوديَّة من أهوال ومساوئ، وسحق لآدميَّتهم وحقوقهم الإنسانيَّة، ولكنهم صبروا لهذا الظلم المستعظم، كما عاهدوا أنفسهم على أن يصبروا، واحتملوا فيه ألوان المشقة ما ينوء بالرجال أولي العزم. كذلك كان هؤلاء المسترقون حين تمَّ استرقاقهم وفديتهم في مرحلة الطفولة، وفي مرحلة الطفولة يمكن تطويع الصبية على ما نريد، كما جاء في المثل “العلم في الصغر كالنقش على الحجر، والعلم في الكبر مثل النقش في المية”. ولله در الشاعر الحكيم صالح بن عبد القدُّوس الأزدي الجزامي، الذي كان متكلِّماً يعظ النَّاس في البصرة، وهو القائل:
قد ينفعُ الأدب الأطفال في صغر وليس ينفعُ بعد الكثرةُ الأدب
إنَّ الغُصونُ إذا قوَّمتها اعتدلت ولا يلينُ إذا قوَّمتَهُ الخـــشب
وفي نهاية الأمر نجد أنَّ الكنيسة قد حفظت سجلاتهم وسيرهم، وروتها للأجيال، بل خلَّدت ذكرى كثرٍ منهم، وعمَّدتهم قداساً في أسمى مراقي القداسة. هذا السمو والتبجيل يعودان إلى ما قام به هؤلاء الرهابنة والراهبات في سبيل الخدمات الجليلة للإنسانيَّة سواءً في المجتمعات التي عاشوا فيها أم تلك التي ابتعثوا إليها للقيام بأعمال تبشيريَّة، وكانوا خير رسل لرسالة السماء في الأرض. هناك ثمة شيء آخر وجده هؤلاء الأرقاء السابقون في العقيدة المسيحيَّة، ألا وهو تلاشي العنصريَّة التي طالما تأذوا منها جسديَّاً وروحيَّاً ونفسيَّاً في المجتمعات العربيَّة (مصر) والمستعربة (السُّودان) وفي المجتمعات الغربيَّة خارج إطار الكنيسة، حتى ولئن لمسوا شيئاً منها في الشارع الإيطالي إلا أنَّها ظلَّت أقل قدراً مما عانوا منها في المجتمعات التي جاءوا منها.
للمقال بقيَّة،،،