الإستقلال الثاني: إعادة ضبط المصنع (٢-٣)

0 86
كتب: محمد فاروق سليمان
.
لم تختلف نهاية الحرب الباردة في بداية التسعينات، في التاريخ، عن نهاية الحرب العالمية الثانية في تعزيز حق الشعوب في الاستقلال، (وإن لم يتجاوز وقتها النص عليه في ميثاق الامم المتحدة، كاطار قانوني دولي لم يكن ملزما تماما، بحكم خضوع المؤسسة الدولية لتوازنات القوة كأمر واقع لا القانون الدولي، الذي ظل مشروع نوايا حسنة والى الان)، لكن وبشكل مختلف هذه المرة، وكفرصة أخرى لتعزيز هذا الحق: يأتي صعود دور النخب الوطنية، وامكانية استقلال الإرادة الوطنية، وفق شروط جديدة في الصراع العالمي، والتي شكلت،_وفق شروط القدرة الذاتية لهذه النخب طبعا_، شرط تاريخي مهم: لما يمكن ان يسمى بـ”الاستقلال الثاني”، لدولة ما بعد الاستعمار post-colonial state، وتحديدًا في الفترة ما قبل أن يُعتبر انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك المعسكر الشرقي، مع نهاية الثمانينات، هزيمة للمبدأ الاشتراكي، وليس انحساراً لايديولوجيا الهيمنة والإمبريالية (بمعناها اللفظي والاصطلاحي الفعلي).
مفهوم الاستقلال الثاني؛ يقوم على تعزيز استقلال الشعوب، من خلال شروط قدرة الارادة الوطنية على الاضطلاع بوظايف الدولة ومهامها، بشكل مستقل من خلال التحول الديمقراطي، والنمو الاقتصادي، والسلام الاجتماعي، وان كان هذا عرض مختصر لقضايا الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية، الا ان الجهد الحقيقي والذي يرتبط بخصوصية تجربة اي من الشعوب؛ هو وجود الدولة الوطنية مسبقًا، وارث مؤسساتها وقيمها، وتشكل نخبها الوطنية لعقود من خلال الاستقلال الأول، والذي وإن اتى كاستحقاق لنضال الشعوب، لكن الدولة بمفهومها الحديث ومؤسساتها، من خلال:
١/ تشكيل نظام الحكم وتطوير نظام سياسي حديث. وأسس تعليم ومعرفة وربما خيال النخب الوطنية. والاحزاب السياسية.
٢/ تشكل علاقات وادوات اقتصادها، لانتاج وتوزيع الثروة؛ من مشاريع ومصانع وتجارة وبنوك وتأمين وبنية النقل والطاقة،
٣/ الميلاد الحديث لي القضاء، والشرطة، والجيش، وجهاز الخدمة العامة، والتعليم الحديث، ومؤسساته، ومفهوم الاكاديميا نفسه، والبحث العلمي وانتاج المعرفة واستهلاك التكنولوجيا.
٤/ إقامة نظام ضريبي، ووضع يد الدولة على الاراضي والموارد الطبيعية وفق مصلحة عامة، وتعريف المصلحة العامة.
كل هذه النقاط كانت ميراث استعماري، وليس تطورا لسياق صراعنا السياسي والاجتماعي التاريخي، والذي كان ليقلل كلفة صراعها حسب طبيعة التوازن في القوة، وينهي أشواط العنف بينها، كشرط للوعي بمصالحها المشتركة ووحدة مصيرها. الامر الذي كان إدراكه، وفق هذا السياق الافتراضي، ليكون افضل من إدراكه وفق ما يمكن أن نسميه بالفارق/الفالق الاستعماري، وادارته عبر طبقة/نخبة وطنية مصنوعة وفق مزاج ومعرفة استعمارية.
وفق مآلات التغيير في الثورات من حولنا، في مواجهة تحديات مماثلة للانتقال السياسي، ودعونا نقول نحو الدولة العمومية inclusive state، كتعريف مباشر للخروج من نمط الدولة “الحصرية” exclusive state، (كتعبير عن الازمة الوطنية في الدولة المركزية بين السلطة وهذه الشعوب وفق مركزية الامتيازات والحقوق)، ومن خلال نموذجين للنضال السلمي، على شاكلة الربيع العربي، او الكفاح المسلح في شرق افريقيا (سيناريو الاجتياح)، _وهو موضوع ساتناوله في مقام آخر أكثر تفصيلاً، في المقاربة بين الطبيعة المختلطة للنضال السوداني وفق النموذجين_:
لكن المهم الان هنا، التطرق لضرورة الوعي بتطاول آماد الاحتجاج، وتعثر التغيير وزيادة كلفته، وإنتكاسه (الردة) في تجربة النموذجين، مثلا يمكن النظر الى تجربة النموذج الاول في تونس ومصر، والثاني في الكونغو (وصل عدد ضحايا حرب الكونغو الثانية ١٩٩٧-٢٠٠٣، الى ٥.٤ مليون بما في ذلك اغتيال الرئيس لوران كابيلا!)، واثيوبيا مؤخراً، بعد تفجر الحرب الاهلية مجددا، مع ارهاصات انتقالها لحرب اقليمية؛ (النزاع الحدودي في بادمي والفشقة)، بينما تمثل كل من ليبيا وسوريا حالة استثنائية؛ للانتقال من النموذج السلمي الى العنف المفتوح، وتحول اليمن الى ساحة صراع اقليمي من ثورة سلمية!
الان يجب عند النظر الى تجربتنا وعثراتها طوال ثلاثة اعوام، وحفاظ حركة الجماهير على عنفوانها وسلميتها، الوعي بان غياب المسار السياسي، (كما في المالات أعلاه)، سيهدد إما عنفوان حراك الجماهير (والعودة الى اللامبالاة)، أو يهدد سلمية الحراك! والانفتاح على الحرب الاهلية الشاملة (أو كما يسميها استاذنا محمد جلال: حرب الكل ضد الكل!!). فلا بد من توظيف الخطأ من قبل كل الاطراف “الوطنية”، واستلهام الدروس والعبر من تجارب غيرنا، والتمعن في تجاربنا وتاريخنا بعقل متقد وضمير يقظ:
_______________________
*نشرت الجزء الاول من هذا المقال في التعليق على خطاب البرهان في ٤ يوليو، من قبل، على أن يكون من جزءين، لكن ومع طول هذا المقال آثرت نشره على ثلاثة أجزاء ساضع في التعليقات هنا الجزء الاول، ويمكن الاطلاع على المقال كامل في حال اكمال نشره.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.