تجربتي في بحري المدينة والمدرسة

0 103
كتب: جعفر عباس 
.
ارتبطت بمدرسة بحري الثانوية بنين لأربع سنوات، كانت شديدة الخصوبة والعذوبة، ففيها زاملت عددا من المعلمين ذوي الحس التربوي الرفيع، وفوق هذا كله فإنني أعشق بحري، وأذكر أنه عندما ضغطت علي والدتي كي اقتني بيتا في “منطقة حلوة”، ان صديقا عزيزا يعمل في مجال السمسرة العقارية عثر لي على بيوت جاهزة وقطع أراض في مواقع مميزة في الخرطوم، فشكرته ورفضت عروضه من منطلق انني سلفا مغترب، ولا يمكن ان أكون مغتربا في السودان باقتناء بيت في مدينة غير بحري، التي ليست فقط مسقط رأسي حيث سحبت داية رجلي في حي “حلة حمد”، ولكن لأن معظم أهلي يقيمون فيها، ولأنها مدينة رائقة واسعة الشوارع وخالية من الجخانين، وأسسها أجدادي حمد ود مريوم وخوجلي أبو الجاز، بينما اختار جدي الآخر ارباب العقائد الخرطوم في القرن السابع عشر وأنشأ خلوة ومسجدا في المنطقة التي تحتلها قاعة الصداقة اليوم، ليكون “قصاد” بقية أهله في جزيرة توتي، والتحق عدد كبير من المحس بالشيخ الأرباب وتملكوا الأراضي التي تقع على امتداد شارع النيل الحالي في الخرطوم، فصارت المنطقة معروفة بسواقي المحس، ولكن جاء الأتراك ومن بعدهم الإنجليز ونقلوا المحس الى ضاحية بري، واعتزم رفع دعوى لاسترداد ارض أجدادي، وتحديدا القصر الجمهوري وسأقوم بتحويله الى خلوة قرآنية لطرد الأرواح الشريرة التي تقيم فيه حاليا، وذلك بموازاة استرداد ارض جدي عنترة بن شداد من شركة أرامكو السعودية.
ما عزز ارتباطي ببحري الثانوية هو أنني كنت أعرف عددا من طلابها وأولياء أمورهم، كما كان كثير من المعلمين فيها من أبناء بحري (الفاتح منصور وطيفور وعبد اللطيف والصائم ويوسف إدريس وموسى والصادق سعد وعباس وعمر خليفة ورستم وغيرهم ممن سقطوا من ثقوب الذاكرة)، وبما انني كنت ادرس في فصول اتحاد المعلمين المسائية، فقد درست مئات البنات في بحري، واستفدت من هذه التجربة ب”النفور” من حفلات الزواج، فعندما تدرس البنات فإن نحو سبعة من قريبات كل طالبة تعرف من تكون، وإذا ذهبت الى حفل زواج وجلست تحدق في الهواء وانت ترعى غنم ابليس، ستواجه في اليوم التالي في المدرسة بنظرات وهمسات تتطور الى غمز ولمز وهمهمات: “قابض الجو أمس”.
ولتفادي كل ذلك كنت في سنوات تدريسي للبنات “رسميا” الى حد بعيد، ولحسن الحظ فإن البنات عموما أكثر تهذيبا من الأولاد، وتكفي صرخة واحدة في وجه مشاغبة كي تتبكم لعدة أشهر، وكنت كما يفعل المدرسون عموما اطلب مثلا من طالبة معينة ان تقابلني في المكتب، إما لمنحها توجيها او توبيخا، فلا تأتي فأسألها لماذا لم تأت؛ فتقول: جيت لقيت معاك راجل!! تقصد انها وجدت معي ضيفا من خارج المدرسة ومنعها الحياء من مقابلتي في حضوره، ولكن ان تقول: لقيت معاك راجل، فيها تشكيك في رجولتي، وتذكرت أستاذي الجعلي في مدرسة البرقيق الوسطى عندما قال له طالب: ممكن تشرهي (تشرحي) الكلام دا تاني؟ فقال له: أنا أرجل منك ومن كل قبيلتك يا محسي يا عواليق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.