الملكة إليزابيث وتركة الاستعمار: الفريق البرهان يطلب القصاص لشهداء معركة أم درمان (1898)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لم تمنع رهبة الموت ولا جلال طقوس تشييع الملكة اليزابيث الثانية الأقلام من الخوض في منزلتها من التركة الاستعمارية. وما أغرى على ذلك أنها جاءت للعرش في 1953 عند أصيل عصر بريطانيا الإمبراطوري وعاشت عصر تفكيكه طولاً وعرضاً. وقالت مايا جاسنوف، المؤرخة لبريطانيا من جامعة هارفارد، عن الملكة وعصرها إن دماثتها ساعدت في تغبيش تاريخ دام خاضته شعوب للتحرر من الاستعمار. وبقيت آثاره وتركته تنتظر أن يُزاح عنها الغطاء بصورة كافية.
وذكرت جاسنوف للملكة وبريطانيا مساع خجول بعد في الوقوف عند أضرار ترتبت على الإمبراطورية من مثل تعويض ضحايا آلتهم الاستعمارية في كينيا (2013) وقبرص (2019). علاوة على تغييرات في المناهج خففت من عزة بريطانيا باستعمارها الآخرين، وإزالة نصب مجدت الإمبراطورية في زمانها. ومما أملى عليها هذه المراجعة، بجانب فراسة إنسانية ناشئة لرد حقوق مظلومي التاريخ، هو تكاثر سود الإمبراطورية بين سكانها. فكان بالكاد أسود واحد من بين 200 أبيض في 1953 بينما تجد الآن أسود بين كل سبعة بيض. بل أخذ نازع الاستقلال باربادوس لإعلان نفسها جمهورية في 2021 وتنتظر أسكوتلندا استفتاء قريباً حول مصيرها في المملكة المتحدة التي هي في حظيرتها. فالتركة الاستعمارية لبريطانيا على الأجندة في ما يبدو.
من صدف التاريخ (غير المستغربة بالطبع) أن جاءت وفاة الملكة اليزابيث في 8 سبتمبر الجاري عاقبة لاحتفال السودان بالذكرى الرابعة والعشرين بعد المئة لمعركة كرري (2 سبتمبر 1898). وهي المعركة التي دارت بخلاء مدينة أم درمان وقضت فيها بريطانيا بقيادة الجنرال هربرت كتشنر على دولة المهدية (1881-1898). واحتلت السودان بعدها إلى أن نال استقلاله في 1956 تحت بصر الملكة إليزابيث. وكانت معركة للموت المجاني. فاستشهد أكثر من 10 آلاف من أنصار المهدي وأصيب 13 ألفاً منهم على ساحة المعركة التي لم تدم لأكثر من خمس ساعات. وبلغت المقتلة بين الأنصار المسلحين غالباً بالسلاح الأبيض حداً من العبث أمر فيه قائد من الإنجليز جنوده أن لا يستهلكوا رصاصهم سدى. واستبسل الأنصار بسالة خلدها لهم ونستون تشرشل، المراسل الحربي وقتها، في كتابه “حرب النهر” بقوله إنهم لم يهزموا الأنصار بل سحقوهم.
وفي مرة نادرة احتفلت القوات المسلحة السودانية بذكرى كرري هذه السنة. وألقى الفريق أركان حرب عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة، خطاباً مختلفاً للأمة في المناسبة. ومصدر اختلافه أنه طالب لأول مرة بالقصاص لشهداء كرري من بريطانيا. واستنكر السكوت الطويل عن المطالبة بحق هؤلاء الشهداء، وطالب باعتذار رسمي من بريطانيا عن دخولها السودان “على أجسادنا” واستباحة مدينة أم درمان لأربعة أيام سوداء.
مطلب البرهان في القصاص لشهداء كرري غير مسبوق في الدولة السودانية. وربما قرأ المرء منه ضيقه الشخصي وحكومته من حصار الغرب لهما لإنهاء الانقلاب الذي قام به في 25 أكتوبر 2021. وهو الانقلاب الذي عده الغرب نكسة للتحول الديمقراطي الذي دعت له ثورة ديسمبر 2018. فصور البرهان، وشيعته بالذات، بعثة الأمم المتحدة في السودان (يوناتمس) التي استدعاها حمدوك، رئيس وزراء حكومة الثورة، وفقاً للبند السابع للأمم المتحدة لإعانة السودان في التحول الديمقراطي، كاستعمار جديد. وسيروا المظاهرات حتى عند مكاتبها للاحتجاج على “تطفلها” على شأن بلد مستقل وحر.
ليس المزاج من وراء ثأرية البرهان لكرري هو المزاج الغالب وسط صفوة كبيرة في السودان. فكرري عند كثير منهم خاتمة مستحقة لدولة “خلافة” أذاقت السودانيين الويلات لعقدين. وهي الويلات ذاتها التي برر الإنجليز بها لأنفسهم غزو السودان. فتنظر هذه الصفوة للفترة الاستعمارية بعين الرضا. فتجدهم يتساءلون عن كيف كانت حالهم تكون لو لم ينتصر الإنجليز على “دولة الدراويش” ليأتوهم بأسباب الحداثة من سكة حديد، ومشروعات زراعية، وتعليم، وصحة.
أما من غبنته مقاتل الأنصار منهم فتجده حمّل الخليفة عبد الله، خليفة المهدي الذي لقي الإنجليز في المعركة، وزر الهزيمة. فيقولون لو كان هاجم الغزاة بالليل كما رأي بعض قادته بدلاً عن النهار، وهو رأي الخليفة، لانتصرت المهدية على الغزاة. وهو توزير عائد إلى نفس الرأي في الخليفة وهو أنه طاغية لا يسمع القول فيتبع أحسنه، ودرويش لا يحسن الحرب. ويغيب عن الذين علقوا انتصار المهدية على الغزاة بمعركة واحدة أن ذلك كان عصراً للتوسع الاستعماري قد تكسب فيه موقعة ما ولكنك خاسر في حرب رتبت بشكل ناجز لتقسيم أفريقيا على أوربا.
ظنت الحركة الوطنية في المستعمرات أنه متى غادرهم الاستعمار بالاستقلال فتلك نهاية ما بينهم وبين أوربا التي استعمرتهم. ولم يصدق التوقع. فبينما ربما نسيت أوربا أفريقيا، أو تناست، ظلت أفريقيا عن طريق صفوتها خاصة شديدة التعلق بالتركة الاستعمارية. فتكاد هذه الصفوة لا تتعرف على نفسها بنفسها ولا بلدها إلا من خلال إرث التركة الاستعمارية. وأعطى الخراب الذي حل بالمنشآت الاستعمارية في العهد الوطني قيمة مضافة لتلك التركة. وفشا وسط الصفوة وأوساط الناس ما يعرف ب” النوستالجيا للاستعمار”. وككل نوستالجيا فهي تشوق لماض ربما لم يحدث، أو أنه لم يحدث تماماً كما يتشوق له الناس. وصار عادياً سماعك أننا، بما انتهينا إليه من سوء المنقلب بالاستقلال، لم نستحق الاستقلال. ولا يخفون رغبتهم بالنتيجة في عودة الإنجليز ليصلحوا ما أفسد عصر استقلالنا الغشوم. وتطلعهم لعودة الاستعمار هذا صدى لكلمة قديمة للصحفي بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، قال فيها إن المشكلة ليست في أننا كنا نحكم أفريقيا. المشكلة حقاً إننا لم نعد نحكمها. لو كنا نحكمها لكانت اليوم في أحسن حال.
ما الذي سيُحرر صفوة النوستالجيا للاستعمار من تعلقها به حتى لو طهرت بريطانيا ثيابها من أذاه على الخلق؟ وجد الأكاديمي الجزائري عبد الحميد هانوم خلوص الصفوة من إرث الاستعمار أمراً عصياً. والسبب في ذلك أن هذه الصبوة بالاستعمار ثمرة مقايضة بينها والغرب. ففظائع الغزوة الاستعمارية في مثل موقعة كرري عندهم هي الثمن القليل الذي ندفعه للحصول على الحداثة الاستعمارية. فالعنف في مثل كرري هو داية الحداثة.
ليس صعباً التكهن بما ستؤول إليه مطالبة البرهان بالقصاص لشهداء كرري. فمن غير المنتظر أن تكون نواة لاستراتيجية سودانية للدولة السودانية لمّا صدرت منه في ساعة غضب وخاطبت صفوة سعيدة بمقايضة الحداثة بكرري.