الجيش السوداني والمشاحنات في الإعلام
كتب: د. الشفيع خضر سعيد
.
المجادلات والمشاحنات السياسية في الإعلام بين الفرقاء السياسيين أمر شائع ومتوقع ومقبول. وهي مرغوبة ومطلوبة دائما لأنها تُعطي المشهد السياسي حيوية.
وهي مفيدة عندما يخاطب محتواها عقل القارئ أو المستمع أو المشاهد مقدما له الجديد غض النظر عن حجم هذا الجديد ومقدار قيمته، وعندما يكون هذا المحتوى ليس معنيا بالأنا، الفرد أو مؤسسة ما كالحزب مثلا، وإنما برفعة الوطن والمجتمع وبتسييد القيم الإنسانية، ويكون الهدف المشترك هو البحث عن التوافق والوحدة حيال قضايا الوطن والمجتمع، وعندما يتم التعبير عن كل ذلك بلغة تجسّد معنى الإختلاف في ظل الاحترام المتبادل مهما تعاظمت حدة الخشونة والمعانفة.
أما المجادلات والمشاحنات السياسية التي تنحدر بالأمر إلى مستنقع التهاتر وسقط القول، فهي قطعا مكروهة لأن محتواها لا يخاطب العقل وإنما الغرائز، ويكون ضعيف القيمة ولافائدة له وغير عابئ بالوصول إلى وحدة أو توافق، ولأنها غالبا ما تُظهر خلاف ما تبطن لإخفاء أمر ما أو للتمويه وصرف الإنتباه، وهي دائما ما تأتي نتاج العجز والفشل في التصدي لأزمات الوطن والمجتمع، فتعبر عنهما مركزة على الأنا والشخصنة، مثيرة غبارا كثيفا من مفردات اللغة ومعانيها في ذم الآخر، فتُصيب الاحترام في مقتل، لذلك هي تنمو وتزدهر في المنعطفات الحرجة التي تُبتذل فيها السياسة.
أما أن تكون القوات المسلحة السودانية طرفا في المجادلات والمشاحنات السياسية المكروهة هذه، وعبر تصريحات لا تأتي من هذا الفرد أو ذاك من جنودها، وإنما تأتي من شاغلي مواقع قيادية فيها تخول لهم رسميا التعبير عنها، رئيس تحرير صحيفتها والناطق الرسمي بإسم مكونها في مجلس السيادة، فهذا أمر جلل يصل في تقديري حد الجنحة التي تستوجب المساءلة القانونية داخل المؤسسة ووفق قوانينها، أو على الأقل تستوجب تدخل قيادة المؤسسة لضبط اللغة والمحتوى حسب تقاليد الضبط والربط العسكرية المعروفة، إلا إذا كانت هذه التصريحات تمت بمعرفة وبأوامر هذه القيادة، وإذا صح ذلك، فهذه كارثة.
صحيح أن أفراد القوات النظامية من حقهم أن يكون لهم رأي وموقف سياسي، مثلهم مثل كل مواطني البلد. ولكن إذا كانت طبيعة المؤسسة العسكرية ونظمها وقوانينها، كمؤسسة قومية وذات حساسية خاصة، تحظر على هولاء الأفراد التعبير علنا عن مواقفهم السياسية حتى لا يختلط حابلهم بنابل السياسة والسياسيين، فإن تجرؤ المعبرين عنها إعلاميا للخوض في وحل المشاحنات السياسية حد التهاتر، ولو من باب رد الفعل على ما يرميهم به بعض الفاعلين السياسيين، أفرادا ومؤسسات، يضع المؤسسة العسكرية في منزلة الجسم السياسي/الحزبي، وهي منزلة مرفوضة منا، وقبل ذلك لا يقبلها ولا يرضاها أبناء القوات المسلحة، غض النظر عن الموقف السياسي الذي يتبناه أيُّ منهم.
أما أن تكون القوات المسلحة السودانية طرفا في المجادلات والمشاحنات السياسية المكروهة هذه، وعبر تصريحات لا تأتي من هذا الفرد أو ذاك من جنودها، وإنما تأتي من شاغلي مواقع قيادية، فهذا أمر جلل
صحيح أن كل الدساتير التي مرت على السودان منذ فجر استقلاله، وكذلك المواثيق ووثائق الاتفاقات السياسية المختلفة، كلها تنص على قومية وحيدة الجيش السوداني.
لكن هذا النص لم يمنع القوات المسلحة السودانية من التورط، بدفع من القوى السياسية، في إنقلابات عسكرية ذات طابع حزبي، تقليدي أو يساري أو إسلامي. كما لم تمنعها، أيضا بأمر من الساسة، من قمع التظاهرات والاحتجاجات والاضطرابات والإعتصامات الداخلية، ولم تمنعها أيضا من التورط في الحروب الأهلية، الوجه آخر للصراع السياسي، والتي لا علاقة لها بعدو خارجي أجنبي، بل تضع الجنود من أبناء المناطق المشتعلة في حالة تمزق داخلي لا تطاق، عندما يُطلب منهم مقاتلة أبناء جلدتهم المتمردين والثائرين لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية.
ولكن، كل هذا التورط، لم يسلب الجيش السوداني وطنيته وديمومة صحو ضميره، فكانت إنفعالاته المكللة بالفخر عندما حسم الأمر بانحيازه للجماهير المنتفضة في أكتوبر/تشرين الأول 1964 وفي أبريل/نيسان 1985 وأبريل/نيسان 2019. فعلاقة الجيش السوداني بالسياسة، كما أراها، ذات طابع معقد، ناقشناه من قبل وسنعيد مناقشته في مقالنا القادم.
لن يختلف إثنان في أن نظام الإنقاذ البائد شن هجوما صاعقا على الجيش السوداني والمؤسسات النظامية الأخرى فأعمل فيها تجريحا وتمزيقا وتشريدا، ساعيا لأن تكون آيديولوجيته هي عقيدتها العسكرية، وأن تكون هذه المؤسسات مطية في يده ينفذ بها برامجه وما يعشش في رأسه من أوهام.
ذاك الهجوم الشرس تواصل لعقود ثلاثة، لذلك من الطبيعي أن تظل إفرازاته باقية حتى اليوم، وربما غدا، ومن هنا المناداة بالإصلاح. وإذا إسترجعنا الأيام الأولى لحراك ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، سنتذكر أن خطاب قيادة الجيش آنذاك جاء منحازا إلى النظام، وهو أمر متوقع ومفهوم. لكن ما لم يكن مفهوما وغير منطقي وأثار سخط مختلف شرائح الشعب السوداني، ما جاء في تصريح تلك القيادة الجيش في فبراير 2019 عندما قالت «إن الذين يتصدرون المشهد في المظاهرات هي ذات الوجوه التي ظلت تعادي السودان وتشوه صورته أمام العالم وتؤلب عليه المنظمات…، وأن القوات المسلحة لن تسلم البلاد إلى شذاذ الآفاق..!» علما بأن غالبية المتظاهرين، أو شذاذ الآفاق هولاء كما وصفتهم قيادة الجيش آنذاك، كانوا ينادون بانحياز الجيش إلى الشارع إمتدادا لتاريخه الوطني الناصع، بل وتوسدوا ميدان القيادة العامة معتصمين، ولكن حدث ما حدث…!
يومها، وبتاريخ 2 فبراير/شباط 2019 خاطبت قيادة الجيش تلك في مقال قلت فيه «لا أدري ما هو قول قيادة الجيش حيال الشهداء الذين سقطوا في الشوارع، وآخرهم الشهداء فايز عبدالله وحسن طلقة والأستاذ أحمد الخير، وثلاثتهم فارق الحياة بسبب التعذيب البدني الوحشي، هل قيادة الجيش غير معنية بهؤلاء الشهداء لأنهم من شذاذ الآفاق؟».
هو خطأ فادح ألا تمنع قيادة الجيش خوض منسوبيها في المجادلات والمشاحنات السياسية في الإعلام، وخطأ فادح ألا تكبح القيادات السياسية جماح الخطاب الإستفزازي تجاه الجيش، ففي النهاية ستكون الحصيلة وبالا على الجميع، شعبا وجيشا ووطنا.