وَفَازَ فَرِيقُ البَنَات !

0 78

رُوزنامةُ الأسبوع

الإثنين

ما يزال النَّاس مختلفين على طبيعة ما حدث فجر السَّابع عشر من نوفمبر عام 1958م؛ أهو انقلاب عسكري دبَّره الفريق ابراهيم عبود، قائد الجّيش يومها، مع الشَّريحة العليا من كبار جنرالاته، أم عمليَّة تسليم وتسلُّم للسُّلطة من عبد الله بك خليل، سكرتير حزب الأمَّة ورئيس الوزراء، آنذاك، إلى الفريق ابراهيم عبود! .

لإفادة قادة ورموز حزب الأمَّة، كالصَّادق المهدي وأمين التُّوم، عليهما رحمة الله ورضوانه، وإبنة الأوَّل، ومديرة مكتبه، رباح الصَّادق، أمدَّ الله في أيَّامها، أهميَّة خاصَّة على هذا الصَّعيد.

إفادة الأوَّل يمكن التماسها بين صفحتي 42 ــ 43 من كتابه «وقفات الميلاد» الذي حرَّرته، وقدَّمت له، رباح الصَّادق، وصدر عن «صالون الابداع للثَّقافة والتَّنمية» عام 2020م. بدأ الإمام هذه الإفادة بلمحة شخصيَّة عامَّة من الأجواء التي سبقت وقوع الانقلاب نفسه، قائلاً: «جرت انتخابات في فبراير 1958م، ألَّف، بعدها، حزب الأمَّة مع حزب الشَّعب الدِّيموقراطي الذي يؤيِّده الختميَّة حكومة ائتلافيَّة. كنت شخصيَّاً قد اشتركت، مع صغر سنِّي، في عمل سياسي كبير لصالح حزب الأمَّة في الانتخابات. لكن كان واضحاً لي أن المناخ السِّياسي لا يناسبني. لذلك اعتبرت مساهمتي في الانتخابات (مأموريَّة) انتهت بنهايتها، فالتحقت بالخدمة المدنيَّة موظَّفاً بوزارة الماليَّة». انتقل الإمام، بعدها، ليقول إنه بدأ يحسُّ بحركة انقسام غير مرئي في الحزب، بين تيَّار يقوده البك، ويحرص على الابقاء على ائتلافه مع حزب الشَّعب الدِّيموقراطي، بقيادة علي عبدالرحمن، وتيَّار مناوئ يقوده رئيس الحزب، والده الصِّديق المهدي، الذي كان يري عدم جدوى ذلك الائتلاف، وضرورة استبداله بائتلاف مع الحزب الوطني الاتِّحادي، بقيادة اسماعيل الأزهري.

وينهي الإمام هذه الجزئيَّة قائلاً: «حدَّة صراع هذه الرُّؤى، ضمن عوامل أخرى، هي ما أقنع رئيس الوزراء بعدم جدوى العمليَّة السَّياسيَّة التَّعدُّديَّة، واللجوء للقوَّات المسلَّحة منقذاً للموقف، مِمَّا أدى لاستلامها السُّلطة، وقيام نظام 17 نوفمبر 1958م».

وفي صفحة 104 من كتابها «بينج ماريال»، وهو الجزء الأوَّل من «سيرة ومسيرة» والدها، كتبت رباح الصَّادق «إن البك كانت حوله أجراس إنذار كثيرة تضرب، فاختار القفز في ظلام الانقلاب، مستنداً إلى كونه عسكريَّاً أصلاً، وسوف يسهل عليه التَّفاهم مع العسكريِّين».

أمَّا أمين التُّوم فقد أكَّد هذه الواقعة في صفحة 166 من كتابه «ذكريات ومواقف»، بقوله إن البك «لم يطلع حزبه على تصميمه على تسليم السُّلطة للجَّيش، بعد أن ووجه بمشاكل لم يتمكَّن من التَّغلُّب عليها».

وواصل الإمام الصَّادق روايته قائلاً إن حدث الانقلاب «جرَّني، رغم أنفي، للسِّياسة مرَّة أخرى. فقد رأى أبي أن الانقلاب مؤامرة ضدَّه وضدَّ حزبه، وكان غائباً في أوربَّا، فعاد مسرعاً. ولم يكن في استقباله بالمطار أحد، فكنت سائق العربة التي نقلته من المطار، وكان ثائراً على الانقلاب، معلناً رفضه. وقد صادف هذا الموقف موقفي، لأنني منذ يوم الانقلاب قرَّرت الاستقالة من الخدمة المدنيَّة لأنَّها لم تعُد كذلك، بل صارت أداة تنفيذيَّة لإرادة غير شرعيَّة، وهذا ما كتبته في خطاب استقالتي، فناداني رئيس قسمي عبد الهادي حمدتو وقال لي إن هذا النَّصُّ لخطابك يجرُّ علينا المتاعب، فأرجو أن تكتب استقالتك دون إبداء أسباب سياسيَّة، ففعلت». بعدها، مباشرة، دلف الإمام للحديث عمَّا جرى بين رئيس الوزراء البك وقادة الجَّيش، قائلاً : إن «خطَّة التَّسليم والتَّسلُّم التي اشترك فيها عبد الله خليل كانت مبنيَّة على اتِّفاق مع قيادة القوَّات المسلَّحة ليكوِّنوا حكومة قوميَّة، ويكتبوا دستور البلاد الدَّائم، ويعلنوا الانتخابات بعد ستَّة أشهر. هذه الخطوة عارضها 13 من أعضاء المكتب السِّياسي للحزب الـ 15. وحتَّى عبد الرحمن علي طه الذي أذاع بيان تأييد الإمام عبد الرحمن المهدي، فعل ذلك، فقط، احتراماً لرغبة الإمام، ثمَّ ابتعد، بعدها، عن العمل السِّياسي، وسرعان ما لحق عبد الله خليل بمعارضة الانقلاب».

ومضى الإمام الصَّادق يقول : «بسرعة تحرَّكت القيادتان الشَّرقيَّة والشَّماليَّة لـ (تصحيح) اتِّجاه الانقلاب في بداية عام 1959م. وبسرعة أدرك الإمام عبد الرحمن الذي كان قد قَبِل بالانقلاب كأقصر وسيلة لكتابة دستور البلاد، ثمَّ استئناف الدِّيموقراطيَّة، أدرك بطلان هذه التَّوقُّعات. وأعتقد، شخصيَّاً، أن الإمام عبدالرحمن، وكان حسَّاساً جدَّاً للأحوال العامَّة، قد فُجع، وبات أكثر النَّاس حزناً، وسمعنا منه في أواخر أيَّامه، كما دوَّن في أوراقه الخاصَّة، ما يدلُّ على أن حالة قصوى من خيبة الأمل قد اعترته. وبعد وفاته في مارس 1959م خلفه والدي المعلن عداءه لنِّظام الحكم العسكري المتعرِّض، حتماً، لقهره. هذا المشهد هو الذي أجبرني على التَّخلِّي عن خططي الخاصَّة بمواصلة تعليمي، وامتهان الزِّراعة، والوقوف إلى جانب أبي في مواجهة البأس الدِّكتاتوري».

 

الثُّلاثاء

بعد ظهر الثلاثاء 13 سبتمبر 2022م قررت لجنة الهيكل الرَّاتبي للعاملين بقطاع الكهرباء تعليق إضرابهم المفتوح، بعد أن استمرَّ قرابة الأسبوع، وعودتهم لمواصلة العمل، وفق التزام السُّلطات بتلبية مطالبهم بتعديل الأجور، وضمان عدم محاسبة من شارك في هذا الإضراب. ووصفت اللجنة ما تمَّ إنجازه بأنه «خطوة جبَّارة في طريق مستمر»، إيماءً لانتزاع الحقوق بمنهج العمل النقابي. ويُذكر أن فلول النِّظام البائد في القطاع كانت قد حاولت الاستثمار في الحدث، بالتَّرويج لكونها جاهزة لسدِّ النَّقص في المواقع فور تنفيذ العاملين لإضرابهم ! لكن سرعان ما افتُضحت كذبتها البلقاء، بالتفاف جموع العاملين حول قيادتهم، ونجاح الإضراب في تحقيق مطالبهم المشروعة!

 

الأربعاء

كلمة «آفاز»، في العديد من اللغات، تعني «صوت» أو «لغة». أمَّا حركيَّاً فهي منظمة عالميَّة أطلقت عام 2007م، وتناضل من أجل قضايا البيئة، وحقوق الإنسان، وحريَّة التَّعبير، ومحاربة الفساد، والفقر، وما إلى ذلك، وتوجِّه جهودها إلى ردم الهُوَّة بين عالم اليوم والعالم الذي يريده أغلب النَّاس. وينتظم في عضويَّة هذه المنطَّمة، حالياً، 70 مليون ناشط وناشطة من جميع الدُّول، حيث تُعتبر أكبر الشَّبكات، وأوسعها، وأكثرها فاعليَّة، ويتوزَّع فريقها على ١٨ دولة، في ٦ قارَّات، وينصبُّ عملها على ايصال وجهات نظر مختلف الشُّعوب إلى صُنَّاع القرار العالمي، لاتِّخاذ قرارات مصيريَّة في شتَّى القضايا السِّياسيَّة والإنسانيَّة، من خلال تنسيق حملات بـ١٧ لغة.  

أحدث حملات «آفاز»، في الوقت الرَّاهن، هي حملة «أعيدوا الأطفال إلى المدارس» التي تُجمَع من أجلها، الآن، التَّوقيعات التي يتقدَّمها توقيعا كلٍّ من فانيسا ناكيت، النَّاشطة اليوغنديَّة في مجال العدالة المناخيَّة، ومؤسِّسة حركة «Rise Up Climate Movement»، وملالا يوسف زي، النَّاشطة الباكستانيَّة الحائزة على جائزة نوبل للسَّلام. وتستند الحملة إلى معلومات بوجود ٢٤٤ مليون طفل خارج المدارس حول العالم، ما يعني أن أطفالاً بتعداد سكان بلد بحجم البرازيل، ومن عائلات فقيرة، محرومون من التعليموتطرح «آفاز» السُّؤال المقلق كيف سنتمكن من بناء العالم الذي نريد، في حين أن ٤ من كل ١٠ أطفال حول العالم لا يكملون تعليمهم في المرحلة الاعداديَّة؟لذا ينبغي الاجتماع على فكرة كبيرة، هي اتفاقيَّة عالميَّة جديدة تحمي حقوق الأطفال في التَّعليم المجَّاني في المرحلتين الابتدائيَّة والاعداديَّة.

وتذكِّر المنظَّمة بأن الحكومات، بعد الحرب العالميَّة الثَّانيَّة، كانت مطالبة بتوفير التَّعليم المجَّاني في المرحلة الابتدائيَّة، وبالنتيجة فإن ٨٧٪ من أطفال العالم أكملوا المرحلة الابتدائيَّة. ونحن، اليوم، بحاجة لاتِّخاذ إجراءات مماثلة لضمان تعليم جميع الأطفال، فيا حبَّذا لو انضممنا جميعاً إلى هذا العمل المجيد، الأمر الذي لن يكلِّفك سوى إضافة توقيعك في الموقع المخصَّص للحملة على الإنترنت! .

 

الخميس

هل يضعضع تزايد نفوذ «العلم التَّطبيقي» مكانة «الشِّعر»؟! تبدو الاجابة غير ممكنة ما لم نحدِّد، أوَّلاً، ما نعنيه بهذا المصطلح الغامض المعرَّف بالألف واللام : «الشِّعر» ! .

ذات عصف ذهني خلال سبعينات القرن المنصرم، شطحنا، صديقي بشرى الفاضل وشخصي، فخلصنا إلى أن كلَّ فنٍّ هو، في النِّهاية، «شعرٌّ»! ثمَّ لعلَّنا خفَّفنا الوطء شيئاً، فحصرنا الأمر في «الاعلاء اللغوي»! وربَّما كان ذلك بتأثير الاستخدامات التَّاريخيَّة للمصطلح بهذه الدَّلالة، فأرسطوطاليس وضع سفره «فنُّ الشِّعر» وهو يشتغل على قواعد المسرح، وبوالو ديبريو ألَّف كتابه «فنُّ الشِّعر»، خلال القرن السَّابع عشر، في ذات المنحى أيضاً. وذهبنا إلى أن كلَّ «شعر» هو استجابة، على نحو ما، لضرورة اجتماعيَّة موضوعيَّة، عبر الوعي أو اللاوعي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ونعني، بالطَّبع، المستوى الاصطلاحي والمفهومي للظاهرة، لا القيمة الكيفيَّة من زاوية النَّقد والتَّذوُّق. وظلَّ الأمر دائماً هكذا، منذ رسومات الكهوف، والاحتفاليَّات الطَّقسيَّة الباكرة. فقط مع تزايد وتعقُّد أشكال التَّعبير الفنِّي خصَّ التَّقسيم المدرسي «القصيدة» وحدها كموصوفة بـ «الشِّعر».

وبرغم الاختلاف النَّوعى بين مداخل «الشِّعر» و«الفلسفة» و«العلم»، فالامساك بقرون الظَّاهرة «الشِّعريَّة» لا يكون بغير المقاربة «الفلسفيَّة» لحقيقة الحياة التي لا تتوفَّر بغير «العلم». ولا أعنى بالمقاربة «التَّفسير»، بل «التَّغيير». مع ذلك فإن «تغيير» الشئ مستحيل دون «معرفته»، فتبوخ أيَّة محاولة لاصطناع صِدام بين «الشِّعر = الفن»، ومناطه «الوجدان»، و«الفلسفة» الكامنة وراء كلِّ «معرفة/ علم»، ومناطها «العقل». وقد نلاحظ، استطراداً، احتفاء «الفلاسفة» بـ «الشِّعر = الفن»، بل وتجريب بعضهم الاشتغال به! أمَّا الذين يقابلون بين «الشِّعر» و«العلم» و«الفلسفة»، فينطلقون، غالباً، من الشِّكِّ فى قدرة «الشِّعر»، بخيالاته، وتهويماته، وأساطيره، على الصُّمود أمام التَّطورات الجَّارية في عصر «العلم»، ويتساءلون، من ثمَّ، حتَّام ستظلُّ الحاجة لـ «الشِّعر» قائمة! لكنه سؤال مقلوب على رأسه! فـ «الشِّعر» ذاته ضرب من الحفر المعرفي الذى يتغيَّا هدم واقع قبيح، وبناء آخر جميل، علماً بأن الحديث، هنا، يدور حول «الشِّعر» الحقيقي، لا الأوهام، عن «الشُّعراء» وليس عن «ضحايا الخيالات»، كما فى قول إلسا تريولييه عن لويس أراغون! ولأن هذا الواقع غالباً ما يبدو أكثر «واقعيَّة» من استيعاب بؤسه، فإن الكثير من «الشُّعراء» يلوذون بـ «الأسطورة» هرباً من جنونه، وتحريضاً على استدباره، لا كمنحى نحو «أسطرة الواقع» من باب شهادة الزور، وإنما كمحض حيلة تنزع عن هذا «الواقع» قناعه، وتجعله أكثر «افتضاحاً»! .

إعادة إنتاج «الأسطورة» فى «الشِّعر» نشاط إبداعي يهدف لا لنفي «الواقع» عدميَّاً، بل لتأكيد استجابته لفعل «التَّغيير = الثَّورة»! . وبالتَّالي، فكلا «الشِّعر» و«العلم» يستهدف، وإن بطرائق مختلفات، تمكين المستضعف، بحفز الوعي لديه، من هذا الفعل، وهذا أوَّل التَّحريض! لذا فـ «الأسطرة» تستأهل الذمَّ ، فقط، حين تستهدف إنتاج وعي «زائف» من شأنه التَّخذيل من «التَّغيير = الثَّورة». لكن «الأسطرة»، بهذا المعنى، ليست خصيصة ملازمة لكل استلهام «أسطوري»، ففى «الأسطورة / الخرافة/ السِّحر»، أحياناً، ما مِن شأنه تعميق الوعي «الحقيقي» بـ «الحقيقة»! .

صحيح أن عصرنا حفيٌّ، لحدِّ الجَّفاف أحياناً، بالكشوفات «العلميَّة = العقليَّة». والنَّاس في كل مكان يتحدَّثون، بنبرة التَّبجيل، عن «العلم»، والتَّفكير «العلمي»، والمناهج «العلميَّة». لكن مكابر من لا يرى، أيضاً، أنهم لا يستطيعون لجم شغفهم «الوجداني» القديم، قدم الانسانيَّة نفسها، بالموسيقى، والرَّقص، والتَّشكيل، والدراما، وغيرها. فـ «الشِّعر = الفن» و«العلم = المعرفة» لا يشتغلان بالتَّبادل! هذا محض مدخل خاطئ لفهم كلا الظاهرتين ! .

فإذا حصرنا كلامنا في «القصيدة»، فإنها، من جهة أولى، من أقدم أشكال التَّعبير الجَّمالي، وأكثرها حميميَّة مع الفطرة. ولذلك فهي، على العكس من «الرِّواية»، مثلاً، شائعة فى البيئات الحضريَّة كما البدويَّة، حتف أنف الفارق الخشن بين وصف الممدوح بالكلب فى وفائه، وبين التَّغزُّل الفاره فى عيون المحبوب التي تجلب الهوى من حيث يدري المُحبُّ ولا يدري! مع ذلك ليس نادراً ما يقع التَّوافق المدهش، في صياغة الصُّورة، بين «شاعرين»، بدوي وحضري، كالذي بين قول ود شوراني «شاعر» البطانة: «نظرة المِنُّو للقانون بقيت اتحدَّى/ فتحت عندي منطقة الغنا الانسدَّ»، وقول محجوب شريف «شاعر» المدينة: «وتفتح نظرة من عينيكي لي مجرى الغنا المسدود»! علماً بأن محجوب أنجز قصيدته عام 1976م، بينما أصدر حريز أوَّل طبعة من «فن المسدار»، شاملة مسدار ود شوراني ذاك، ولأوَّل مرَّة، عام 1977م! وكنت أخطأت، عند النشر الأول لهذه الرزنامة، بأن نسبت هذا المسدار إلى شاعر البطانة الحردلو، حتى بعث إليَّ الصديق الشَّاعر عاطف خيري يصحِّحني برسالة من ملبورن بأستراليا. الشَّاهد هو الكيفيَّة التي تتجلى بها «وحدة» التَّجربة الشُّعوريَّة، مهما تباينت مصادرها، والتقاء طاقات التعبير «الشِّعري» عن ذات التَّوق للوجود «المغاير»، أيَّاً كانت الأشكال الفنيَّة التي تتَّخذها! فـ «الشَّاعر»، في المقام الأوَّل، «إنسان يخاطب الناس»، كما في كلمة لوردزورث. ويعظم أثر هذه المخاطبة وخطرها، كلما عظمت طاقة «الشَّاعر»، ليس فقط على تثوير مضمون الفضائل الانسانيَّة التى يبشِّر بها، بل وعلى تثوير اللغة ذاتها، كجزء من البنية الفنيَّة التي يتوسَّل بها، ضمن حمولته «الشِّعريَّة»، لخلق اللذة، والادهاش، والامتاع، وخلب الألباب، قبل جلب المنفعة، أو الدَّفع باتِّجاهها، على رأي برتولد برشت. وفى هذا شئ من اعتبار «الشعر» ثورة بـ «اللغة»، و .. فيها أيضاً، مِمَّا يتيح مسارب لـ «العلم» و«فلسفته» إلى شرايين «الشِّعر» و«أوردته» الدَّقيقة!.

ثراء «العلم» نفسه لا يقوم، من جهة أخرى، إلا على ثراء «الخيال» الذي هو عنصر رئيس في العمليَّة «الشِّعريَّة = الفنِّيَّة». والموافقات بين «الشِّعر = الفن» وبين «العلم»، شائعة مشهورة، فما أكثر الحقائق «العلميَّة» التي تجذَّرت، ابتداءً، فى «الشِّعر = الفن»! .

أمَّا من جهة ثالثة، وعلى صعيد علاقة «الفلسفة» بـ «الشِّعر/القصيدة»، دون إغفال الفروق بينهما، فنشير إلى البنائيَّة «الفلسفيَّة» المذهلة التى أنجزها شاعر كالمتنبي، مثلاً، فى مستوى «جدل» اللغة والصُّورة «الشِّعريَّة»، قبل أن يُصار إلى إعادة إنتاج هذه البنائيَّة فى المستوى «الفلسفي» المجرَّد بقرون طوال، لدى هيغل ثم ماركس!. واستطراداً، ننوِّه، أيضاً، بالتَّأسيسات الباهرة للامام عبدالقاهر الجُّرجاني، مثلاً، فى حقل الأدب و«فلسفة» اللغة، وتحديداً «جدل المضامين والأشكال»، أو «المعاني والمباني»، دَعْ الانفجار المذهل للمنجز «الشِّعري» والنقدي العربيَّين، على هذا الصعيد، فى العصر الحديث.

وإذن، ليس ثمَّة «تطابق» تام، ولا «قطيعة» نهائيَّة بين «الشِّعر»، و«الفلسفة»، و«العلم». وطالما بقى في الانسانيَّة شغف باللذة المتأتِّية من التَّطلع للوجود المغاير، فسوف تبقى لـ «الشعر = الفن» قيمته المتأتِّية، بالأساس، مِن خاصِّيَّته «التلقائيَّة»، مع الأخذ في الحسبان بضرورة مواصلة «القصيدة» التَّغذِّي على الأجناس الأخرى، كالسرد، والفوتوغرافيا، والسينماتوغرافيا. بعد ذلك، وليس قبله بأيَّة حال، قد يمنح المخزون «الفلسفي» و«المعرفي» هذه القيمة قيمة مضافة، دون أن يكون هذا المخزون نفسه هو مصدر القيمة الابداعيَّة الأصليَّة!.

 

الجُّمعة

ثمَّة مفهوم قانوني تأخذ به محاكمنا، وإن كان غير متداول كثيراً، هو مفهوم «الأمانة الرَّاجعة أو المرتجعة  Resulting Trust»، وقد وَفَدَ إلينا من القضاء الإنجليزي الذي كرَّسه لقرون طوال. ومن أمثلته الشَّائعة أن يُسجِّل صاحب عقار ملكيَّته في إسم غيره، دون أن يقصد التَّنازل عن هذه الملكيَّة، وإنَّما كأمانة يستردُّها متى طلبها، فينشأ، لاحقاً، النِّزاع القانوني، دَعْ الأخلاقي، حول ما إن كان يحقٌّ لمن سُجِّل العقار في إسمه التَّمسُّك بحجِّيَّة السِّجل؛ أم أنَّ المحكَّ هو قصد المتنازل لأن يكون تصرُّفه على سبيل «الأمانة» التي ينبغي أن «ترجع» له عند طلبها!.

ومع أن القانون يحفظ للسِّجل، في العادة، قوَّة مطلقة بموجب «شهادة البحث»، إلا أن الرَّاجح في قضائنا أنه، إذا ثبت انصراف قصد المتنازل، وبعلم المتنازل له، إلى «الأمانة» التي ينبغي «إرجاعها»، فإن هذا القصد يعلو، في هذه الحالة، على «السِّجل»!.

لذا، فعلى أيَّما شخص سُجِّل أيُّ عقَّار في إسمه على سبيل «الأمانة الرَّاجعة»، ألا يعشم كثيراً في الاستناد إلى «السِّجل» للاحتجاج بملكيَّته!.

 

السَّبت

قال جبريل كلَّ ما يمكن أن يُقال في الإجابة على ما يمكن أن يثور من أسئلة حول إعفاء ابن أخيه الشَّهيد خليل من سداد جمارك سيَّارته، إلا سؤالاً واحداً .. هل كان الشَّهيد سيقبل بهذا الإعفاء لو كان حيَّاً! .

 

الأحد

شرحت معلِّمة الأسبانيَّة للفصل أن هذه اللغة، بعكس الانجليزيَّة، تذكِّر وتؤنِّث الأسماء، فـ «المنزل» مؤنَّث la casa، بينما «القلم» مذكَّر el lapiz .. وهكذا. وقف تلميذ يسألها :

ــ «وما يكون جنس الكمبيوتر يا أستاذة»؟!.

فكَّرت المعلمة هنيهة، ثمَّ قسَّمت الفصل إلى فريقين، أولاد وبنات، وطلبت من كلِّ فريق الاجابة على السُّؤال مع ذكر أربعة أسباب.

أجاب فريق الأولاد بأن الكمبيوتر مؤنَّث la computadora للآتي :

(1) لا أحد، غير ربِّ العالمين، يستطيع أن يفهمه!.

(2) لديه لغة سرِّيَّة يتواصل بها مع الكمبيوترات الأخرى، ولا يعرفها غيرهم!.

(3) يحفظ أتفه غلطاتك، وبذاكرة طويلة الأمد، ليمكنه استعادتها لك مرَّة أخرى!.

(4) ما أن تختار واحداً، حتى تجدك مضطراً لإنفاق نصف دخلك على إكسسواراته!.

أمَّا فريق البنات فأجاب بأن الكمبيوتر مذكَّر el computador للآتي :

(1) لكي تعمل فيه أىَّ شئ لا بُدَّ أن تشغِّله أولاً !.

(2) رغم أن لديه الكثير من المعلومات، إلا أنه لا يفكِّر لوحده !.

(3) في حين يُفترض أن يساعدك في حلِّ مشاكلك، تهدر نصف وقتك في حلِّ مشاكله !.

(4) ما أن تختار واحداً، حتى تكتشف أنك، لو كنت تريَّثت، لكنت حصُلت على آخر أفضل منه !.

وكانت النَّتيجة أن فاز فريق .. البنات!.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.