ونلت الترقية الى السرير الوثير
كتب: جعفر عباس
.
صرنا نعيش في زنزانات مفتوحة 24 ساعة، في قسم الغربيات الجديدة، وعندما اقترب عيد الأضحى أفادنا أحد السجانين بأن صنع الشربوت مسموح به، وكانوا يعطون كل مسجون نحو 10 تمرات في الأسبوع من أردأ أنواع التمور، وبما أننا لم نكن نأكل منها شيئا فقد توفرت لنا كمية طيبة منها نقعناها في جردل كبير، ويوم وقفة العيد فوجئنا ب”كوكوة” من العساكر يقتحمون القسم، وحبسونا انفراديا في الزنازين وصادروا الشربوت الذي قالوا إن صنعه في السجن ممنوع، وكان معهم العسكري الذي أفتى لنا بجواز صنع الشربوت معهم ويبتسم في خبث، وبعد نحو ثلاثة أيام وخلال المرور الصباحي وقف عم خيري (الشناق المكلف بشنق المحكوم عليهم بالإعدام) أمام زنزانتي، وهو من “أندنا” من أرقو، وقال لي بلغة الناطقين بغيرها إنه لم يذق مثل “ذلك الدكاي” منذ أكثر من عشرين سنة. فصحت فيه: يا سكرجية حبستونا في الزنازين وحولتم شربوت العيد الى دكاي مسكر، ان شاء الله بالإسهال والمرض البطال، فضحك وانصرف.
كان يتم الإفراج عن المعتقلين بين الحين والحين، ثم جاء يوم صار فيه القسم ملكي بالشراكة مع قبطان مصري تم القاء القبض عليه في بورتسودان بعد العثور على كمية من الذهب في سفينته واتهموه بأنه يقوم بتمويل المعارضة، وكان الرجل يتآنس معنا ويروي لنا حكايات طريفة عن عالم البحار، ولكن ما أن خلا القسم من المعتقلين الآخرين حتى انقلب الرجل علي، وصار لا يغادر زنزانته إلا عندما يأتي العساكر للتمامين الصباحي والمسائي، وفور دخولهم كان يرفع يديه بالدعاء بصوت مسموع: اللهم انصر نميري على الناصريين والبعثيين والشيوعيين والإخوان المسلمين والأمويين (يقصد جماعة حزب الأمة)، فقد كان المسكين يحسب ان حراس السجن سيبلغون نميري بأنه من مؤيديه، ولأنه لم يكن يعرف لي لونا سياسيا فقد لعب على المضمون وصب اللعنات عن الجميع واستثنى الفرس والروم.
ذات يوم مر الموسيقار وردي أمام باب قسم الغربيات الجديدة في طريقه الى المستشفى العسكري (وكان باب حوش الزنازين عبارة عن اسياخ تستطيع ان ترى من خلالها كل من يمر أمامك)، فحكيت له عن القبطان وقلت له: يا كتلني يا كتلتو، فطلب مني أن أجد لنفسي مرضا محترما يبرر نقلي الى مستشفى السجن، و”خلي الباقي عليّ”، وفي التوقيت المتفق عليه قمت بتذويب كمية من أقراص الفيتامينات ذات الغشاء الأحمر ولطخت بالسائل الأحمر قميصي وجانبا من صدري ووقفت مترنحا امام زنزانة القبطان الذي أصيب بالهلع وخشي ان يتم اتهامه بالاعتداء علي واستنجد بالديدبان الذي يجلس في برج على السور الخارجي وبعد قليل جاء عسكري ومعه مساعد الحكيم بالسجن، وشالوني “طب العصب” الى مستشفى السجن، وأتقنت الدور حتى وجدت نفسي في عنبر نظيف به وانصرف من حملاني الى المستشفى بعد وضعي في فراش وثير (أنا الذي كنت أنام على الأرض لأكثر من شهرين في الزنازين) ثم أتاني المعتقلون في المستشفى بعصير قريب فروت، وبعد المؤانسة لنحو ساعتين دعوني الى العشاء، وأكلت كبدة ولحما مسلوقا وسلطة خضراء ثم رقدت لأستمتع بالسرير، وبعد نومة قصيرة صحوت على هدير مظاهرات في بطني، وقضيت الليل بطوله راكضا ما بين السرير والحمام حتى فقدت السوائل وارتفعت حرارة جسمي وصرت مستحقا الرقاد في المستشفى بعرق جبيني وبطني، وجاءني معتقل وأنا على ذلك الحال وقال: يا زول مبروك، اشتهيت المرض وأهو الله أداك.. خُم وصُر.