عبد القادر الكتيابي: مزج لطائف الحداثة بهالات الصوفية
كتب: صلاح شعيب
.
شكل في صبانا جزءً كبيراً من ذائقتنا في تلمس خرائد الشعر الحديث، وجدائل الكتابة الرصينة. وهو في محفلهما من الفرسان الذين أضافوا كثيراً من حيث المفردة الحداثية، وتعميق الطرح الإنساني، والجمالي، والوطني، والصوفي. ولا غرو فهو من أسرة امدرمانية ما انفتح باب لحوزات العلم إلا ودخلته سُجداً، ووسعته عرفاناً للآخرين من بعدها. رعوا الخلاوى، وأوقدوا نارها التي يتدفأ بها الحيران، والمهاجرون، ولم تنطفيء إلى يوم الناس هذا. فالمؤكد استضافتهم للقادمين من فيافي البلد للتعلم، وكذلك من بلاد الحزام السوداني، والقرن الأفريقي.
وعرف أكابر القوم الكتياب برزانة الحكمة، وتعميق الفقه، وتجويد اللغة. ونشأ الأحفاد المؤدبون بهدي القرآن الكريم، وسيرته صلى الله عليه تسليما. وهموا المعطرون بخِلاق دوحتهم الكريمة ليحافظوا على إرث الكتياب، أفاءنا الله بجنابهم الروحي. طفق الكتيابيون يطورون في مجالات الشعر، والقصة، والمسرح، والصحافة، والإعلام، وفي ذهني طائفة من الأسماء، والأصدقاء الكتياب. تلمحهم في كثير من مجالات الحياة المتنوعة التي شملت مساهماتهم في حقول العسكرية، والدبلوماسية، والصحافة، والطب، والتعليم، والقضاء، والاستثمار، والمحاماة، وغيرها. ويكفي أن تاج الأسرة، وقمة فخرها، هو ذا خاله الشاعر التيجاني يوسف بشير الذي يستلهم منه عبد القادر، وبقية المبدعين الكتياب، وغيرهم، حرارة دفق موهبته الفذة، وعبقريته الفريدة.
إنهم كلهم سليل جعلية الكتياب، هذي القرية المتكئة على الشاطئ الغربي لمنطقة المحمية في ولاية نهر النيل، وزانها الله بخضرة، ووداعة، وأريج.
قادنا إلى ارخبيله أول مرة الموسيقار بدر الدين عجاج، والفنان مصطفى سيد أحمد عبر الأغنية الشهيرة التي ولدت في مهرجان الثقافة الثالث في عهد مايو:
لمحتك قلتَ بر آمن بديت أحلم
ألملم قدرتي الباقية، وأشد ساعد على المجداف
تلوح لي مدن عينيك، وترجع منارة بسمتك سارية، وبديت أحلم
ولما دفعت الأغنية الفنان الجديد سعى لينمى العلاقة الإبداعية مع الشاعر بأغنية أخرى تحيطها نزعة صوفية لا منجاة له منها، وكانت النوبة إيقاعها:
على بابك نهارات الصبر .. واقفات
بداية الدنيا هن واقفات
وكم ولهان، وكم طائر
بعد نتّف جناحو وراك
لملم حر ندامتو .. وفات
قطع شامة هواك من قلبو
إلاّ هواك نبت تانى،
وعلى بابك وقف تانى
مشغل الصوت
ولد عبد القادر عبدالله الكتيابي عام 1954 في الثامن والعشرين من نوفمبر عند نهايات خريف أمدرمانيٍّ بين والد ووالدة من عائلة واحدة عُرفَت بتعليم القرآن الكريم و الاحتفال بالآداب و اللغة والشعر. فدفعا به إلی كُتّاب الخلوة قبيل استكمال عامه السادس حيث يرى أن الله أنصف إنسانية طفولته وسواه بالكبار إذ لم يخصص قرآنا للأطفال … فالتزم الكبار باحترام عقولهم ولم يقوموا بتبسيط شئ أو تحريك صورة بمسرح عرائس أو رسوم كرتونيـــة لتعليمهم فانجلت في مداركهم عيون اللغة، وجرت أنهارا دافقة بالتأمل، والخواطر الرابحة. ويضيف بقوله “نحن بين التعلم واللعب وتذوق المواسم لا تأخذنا دهشة لهدير ذلك الانبجاس ولا غرابة لتدفق تلك الأنهار ..كان القلم أحب لعبة بين أصابعي وأنا صغير ، كبرت معي محبته وفُتِنتُ باقتنائه و عُنِيتُ بإصلاحه وسقياه واستعماله لرسم الحياة وكتابتها على كل ما يمكن النقش عليه، وعلى ذلك مضت حتی كتابة هذه السيرة خمسة عقود من عمري أدركت خلالها أن أصابعي تحولت إلى لعبة يجرها قلم..، هكذا أفصح الشاعر الأريب..”.
-٢-
الكتيابي قال إنه تلقى في الخلوة إلی جانب الحفظ مباديء اللغة والنحو، وظل ارتباطه بها متصلاً بعد إلحاقه بالسلم الأكاديمي منتقلا من الفترة الصباحية إلی حلقات العصر ثم متنقلاً إلی أروقة حلقات العلماء في مساجدَ أخری، ومتدرجاً علی ذلك السلم في الوقت ذاته من الابتدائية فالمتوسطة فالثانوية. كل ذلك في أم درمان ثم سافر لدراسة كلية الآداب بجامعة القاهرة المصرية وعاد بعدها مدرساً بمدارس أم درمان ثم محرراً، ومدققا لغويا لبعض الصحف السيارة والمطابع. وكانت كتاباته النثرية ونصوصه الشعرية قد ذاع مجمل منها منذ عهد المرحلة المتوسطة خاصة بعد أن صدر ديوانه الأول (رقصة الهياج) 1981 بالقاهرة. ويضيف شاعرنا أنه بقي هناك آنذاك لسنتين عمل خلالهما في مجلة حضارة السودان (الخرطوم هذا الأسبوع) محررا ومدققاً لغويا وتعاون أثناءها مع إذاعة ركن السودان بإعداد وتقديم برنامج (قراءات في الأدب السوداني).
وعاد بعد ذلك ليعمل في حقل التعليم متنقلا بين بعض مدارس أم درمان في الثانويات العامة والعليا، ومتعاونا أثناءها كذلك مع إذاعة أم درمان والملاحق الثقافية في كل من جريدتي الأيام والصحافة، بالإضافة إلی المشاركات الكثيرة علی المنابر في المحافل الثقافية والأمسيات الشعرية والمنتديات. والمعروف ان تأثير شاعرنا امتد إلى خارج الحدود. فقد أكملت الباحثة مليحة رجائي رسالتي الماجستير والدكتوراة عن قصائد لمجموعته الشعرية الكاملة، وذلك من خلال دراستها في جامعة كرج في إيران..
و علی ذكر المنتديات والصالونات الأدبية قال عبد القادر الكتيابي إنه يحمد الله أنه حُظي بشهود ندوة الأديب الراحل عبد الله حامد الأمين حيث كان أصغر مرتاديها سناً. التقى في الندوة بكوكبة من الأعلام الأدبية فضلا عن ذلك أنه شهد بانتظام ندوة السرّاج، وأربعاءات المغربي، وصالون الشرفي وصالون أبو حراز. وبالطبع صالونه الأدبي المعروف (إشراقة) والذي حضرنا بعض جلساته، حيث ينعقد في منازلهم كل جمعة. كما لم يشغله ذلك كله ما قبل وما بعد فترة الدراسة بالقاهرة عن متعته في حضور حلقات الفقه وعلوم القرآن التي كانت تنعقد في مساجد أم درمان والخرطوم، وتدرس فيها أمهات الكتب بواسطة علماء من طراز المشايخ محمد عثمان الزبير، وإبراهيم محمد علي، وحسن الفكي، والشيخ حمزة .
-٣-
اغترب الكتيابي للعمل في دولة الإمارات في عام 1986 بهيئة الإمارات للإعلام متنقلاً فيها بين جريدتي الفجر والاتحاد ثم إذاعة القرآن الكريم، والتي كان أحد مؤسسي إنطلاقتها – مراقبا علميا للبرامج ومذيعاً ثم نقل إلی مركز الأخبار أبوظبي مدققاً لغوياً حتی العام 2004 حيث عاد إلی الوطن الذي لم يكن قد انقطع عنه أثناء اغترابي .
رجا من عودته أن تكون نهاية لغربة نوي خلالها أن يتفرغ للدراسات العليا. وقد أسس مركزاً صغيرا للتدريب الإعلامي بأم درمان غير أن خلافه الحاد مع النظام الحاكم وقتها اضطره إلی معاودة الاغتراب منذ 2014 و حتی 2020 حيث تم تعيينه في حكومة ثورة ديسمبر أميناً عاما علی الصندوق القومي لرعاية المبدعين بقرار من السيدين رئيس الوزراء د.عبد الله حمدوك و وزير الثقافة آنذاك الأستاذ فيصل محمد صالح .
وفي أواسط 2022 صدر من أمانة مجلس الوزراء قرار كُلف بموجبه مديراً عامّاً بأكاديمية السودان لعلوم الاتصال والتدريب الإعلامي إلی جانب قيامه علی صندوق المبدعين، وهذا هو وضعه الحالي في شأن العمل.
صدر ديوانه الثاني (هِيَ عصاي) 1994 والثالث (قمة الشفق) 1998 وكلاهما صدرا بالإمارات أما (ديوان الكتيابي) المجموعة الكاملة – الشعر الفصيح فصدرت منه طبعتان 2006 بالخرطوم و2016 بالإمارات.
كما أعد للنشر ديوان العامية (لمحتك) الذي يضم نصوصه المغناة المتداولة ورواية بعنوان (الثالث “حكاية كرار الكمالي”)
ومجموعة مقالات وخواطر بعنوان (أسمار الهدأة). وبخلاف مصطفى كان له تعاون مع الموسيقار يوسف الموصلي الذي لحن وغنى يا مستطاب ودعوة إلی الثورة وسهم طايش وكذلك غنى سيف الجامعة منذ كنا خيالا في خيالي و”بريق بسيمتك” وتوب المدی و”في ليل علی ضي الثريا” و”الغايه من سكة هواك” كما غنت له فرقة عقد الجلاد (رش الفال ويا برّاق سحاب الطرفه).
الشاعر عبد القادر الكتيابي هو التواضع يمشي بين الناس، وحين نادى المنادي غامر وترك غربته ثم عاد لبلاده لعله يسهم في مسيرته الجديدة. بقي حفيا بالمبدعين ولكن لا بواكي لهم. فصندوق رعايتهم الذي يشرف عليه لا يجد دعما من الدولة ولا الخيرين، بينما وجدنا الذين حفظوا وشيجة هذا البلد هم المبدعون، لا غيرهم. منذ أن عرفتهم لاكثر من ثلاثة عقود وجدته من المبدعين المونسين الذين يذكرك تواضعهم بأنك لا تملك شيئا ذا قيمة مثلهم لتتواضع به. فهو ما دخل مجلساً، أو محفلا إلا وانتبذ ركنا قصياً فيه، والمدعاة أن سيرته مزدانة بالخلق النبيل الذي ورثه فيه اهله الكتياب، وفي هذا فإنه متأدب بشيخه الذي بايعه، ولم يبايع في هذه الدنيا خلافه.
على كيفي، على كيفي …
أرقع جبتي أولا أرقعها..
أطرزها من اللالوب.. ألبسها على المقلوب.
أخلعها .. على كيفي .
أنا لم أنتخب أحدا…
وما بايعت بعد محمد رجلا .
ولا صفقت للزيف ..
.
فليحفك الله بالصحة يا عبد القادر الكتيابي دوما بقدر ما قدمت لبلادك، مناضلاً من أجل الحقيقة، وفناناً يزخرف الحروف، ومثقفاً مساهماً في بناء دولة المواطنة.