إدْوارْد سَعِيد، هَاجِسُ المُوسِيقي الإنْسَاني
كتب: واسيني الأعرج
.
تحل اليوم ذكرى وفاة أحد أهمّ الشخصيات الثقافية العربية التي رفعت عاليا القيمة الفكرية والإنسانية للمنطقة، في المنفى الأمريكي. فقد شكّل، ظاهرة متفردة لدرجة أن أصبحت كتاباته المتنورة والفاعلة حائط صد حقيقي ضد التيارات التي اختزلت العربي في صفتى “المتوحش” و”الإرهابي”. ذكرى وفاة إدوارد سعيد الأليمة تدفعنا إلى المزيد من التفكير والتأمل في الاستراتيجيات الممكنة للدفاع عن أنفسنا. فهذا الصوت العربي الحي الذي يصعب تعويضه اليوم، لم توقفه لا الآلة الجهنمية للصّهيونية، ولا النقد غير الموضوعي الذي لم يخرج عن الاختزال السياسي والأيديولوجي.
الكثيرون لا يعرفون إدوار سعيد ( ولد في 1 نوفمبر 1935 القدس، توفي في 25 سبتمبر 2003 نيويورك، ودفن رماده في لبنان) الموسيقي، الذي اختبر هذا الفن ممارسة وتنظيرا، إلى جانب عمله الثقافي والعلمي والسياسي. فقد ساهم، من خلال الكثير من مقالاته المختصة موسيقيا، في الرفع من قيمة الموسيقى واعتبارها واحدة من أهم الحاجات الإنسانية التي تفرض على الأفراد والمجموعات البشرية، ضرورة تعلمها كما هي بقية مناحي الحياة الأخرى. فقد تعلم ومارس إدارة الأوركسترا بتقاليدها الإيطالية والألمانية، والعزف على البيانو بحرفية لدرجة أن اعتبره الكثيرون “فيرتيوزا Virtusose” مميزا. إلى جانب تعمق خطابه الموسيقي من خلال كتاباته المميزة والمتخصصة، أسّس فرقة موسيقية بجهده الخاص وجهود بعض رفاقه الذين قاسموه الانشغالات السياسية والثقافية نفسها في مجتمع إنساني انهارت فيه كل القيم التي رفعته في وقت من الأوقات. أطلق اسم “أوركسترا الديوان الغربي الشرقي” على الفرقة وكان الهدف من ورائها محاولة وصل الغرب بالشرق في أفق إنساني خارج المسبقات والحروب المدمرة.
الغالبية من المختصين والمهتمين بمنجز إدوارد سعيد، اطلعوا على جهوده النقدية الجامعية، وتفاصيل اختصاصه في الأدب المقارن الذي دشنه ببحث في الكاتب جوزيف كونراد، وعلى فكره السياسي ومنجزه الثقافي السّجالي مع الذين اختلفوا معه، وهو ما جعله يتبوأ أعالي سدة المراتب الثقافية، بوصفه مثقفا كبيرا لا يمكن القفز على أعماله. ليصبح في وقت وجيز من خيرة مفكري العالم العربي الفعالين دوليا. كما اقتربوا نقديا من مقارباته “الحادة” والصادقة من القضية الفلسطينية بكل منجزاتها ومآسيها التاريخية المتلاحقة، إذ كانت ميدانا خصبا لكتابات ودفاعه عن الحق الفلسطيني الذي وضع الحركة الصهيونية والعالم “الحر” في دائرة الاتهام. وبدل مناقشة أفكاره الحيوية، لم يجد من مخرج سوى اتهامه بمعاداة السامية، بالاعتماد على مواقفه تجاه شعبه الفلسطيني، واعتبار الصورة التي يظهر فيها ابنه وهو يرمي الإسرائيليين بالحجارة في بيروت، إبان أيام الاجتياح، شكلا من أشكال معاداة السامية. دافعت عنه جامعته باستماته بعدما طالب بعض المتطرفين بطرده منها. استطاع بجهوده العلمية والثقافية أن يخترق عالما أمريكيا مغلقا تجاه الغريب، ومنتصرا لإسرائيل في عمومه. فقد ناقش المختلفين معه بأطروحات بديلة لأطروحاتهم الاستعمارية الجاهزة، بعقلية المفكر الذي لم ينس أبدا أنه ولد بالقدس، وأنه يعيش بعيدا عن أرضه الأولى التي سرقت منه ومن شعبه، ودفعت به نحو مغاور المنافي الذي عاشه كلحظة حارقة سيدها الفقد كما يسميه، ولكن عاشه أيضا كلحظة إنسانية جعلته يكتشف عالما ظل مغلقا لولا تلك الأراضي التي استقبلت والده في وقت مبكر، واستقبلته. يلوم أهله أنهم لم يفتحوا عينيه على أرضه وشعبه منذ البدايات الأولى، بالشكل الكافي. وقد ذكر ذلك في سيرته، “خارج المكان” إذ عتب عليهم “لأنهم لم يسمحوا له بالانخراط في مجتمعه الذي نشأ فيه، وبالتالي لم يتسنّ له معرفته معرفةً وثيقة، وقد سمّى غربته بالمنفي.” الذي اعتبره قسوة قاتلة للإنسان من الداخل. فهو فقد “هوّةٌ قسريةٌ لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. وأيّاً كانت إنجازات المنفي فإنها خاضعةٌ على الدوام لإحساس الفقد.”
من وراء ذلك كله، كان يتخفى موسيقي كبير، مرهف الأحاسيس، استطاع أن ينتقل من مجرد متذوق الموسيقى، إلى الانغماس فيها، لدرجة التأليف التخصصي. لم يكن هاويا موسميا كما يقال، ولكن كاتبا مرتبطا عضويا بهذا الفن الذي لا يمكن فصله عن المجتمع بما في ذلك نشاطه السياسي. كتبه التي ألفها دليل قاطع لما نقدمه في هذا السياق، فهي تبين قدراته على الفهم العميق للموسيقى وجورها في صناعة الإنسان الجديد. كتبه الثلاثة الرصينة معرفيا بشهادة كبار المهتمين بالموسيقى، تكشف عن هذه القدرات الاستثنائية الهائلة التي بنى عليها مشروعه الموسيقي: «متتاليات موسيقية (1991)» كتاب «المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع (2002)» بالاشتراك مع دانييل بارينبويم، والعنوان الثالث «النموذج الأخير: الموسيقا والأدب ضد التيار (2006)». إضافة إلى كتاب رابع، لم يهيئه هو بشكل مباشر، مجموعة من المقالات كان قد كتبها عن الموسيقى ونشرها في العديد من المجلات منها المجلة المتخصصة “ذا نيشن”. نشرت هذا المؤلف جامعته كولمبيا التي شكلت مساحته الثقافية والمعرفية، تحت عنوان: حدود الموسيقى (2007). جهد روحي يتجلى بعمق في أعماله التي لا يفصل فيها بين الفني والفكري والسياسي. فهي عبارة عن كل متكامل ومتناغم كما يقول. لا يمكن للإنسان الطبيعي إلا أن يعيش تحت سقف الموسيقى. فهي من أرقى الأشكال الفنية التي تمس الإنسان في داخله وتمنحه انسجاما روحيا تعمل الحياة اليومية القاسية على تفكيك عراه، تـأتي الموسيقى فتلحمه بقوة من جديد. الموسيقى ليست هواية ولكنها غواية من أجمل الغوايات.
أهم ما قام به في هذا السياق، ونظرا لرغبته الحميمية الكبيرة لجعل لغة الموسيقى، لغة للسلام وليس للحروب، أنشأ في سنة 1999، برفقة صديقه دانييل بارينبويم، أوركسترا متكاملة أطلق عليها تسمية: “الديوان الغربي الشرقي”، كما ذكرنا ذلك من قبل، تدمج الأصول الفنية الشرقية والغربية في الآن نفسه. وتتكون الفرقة من شبان من فلسطين ومن بعض البلدان العربية ومن إسرائيل. ولم يكن الأمر سهلا إذ كان عليه إقناع الآخرين بأن ذلك ليس “تطبيعا” ولا اعترافا مجانيا بإسرائيل، لأن القضية الفلسطينية تظل كبيرة وتظل قضية احتلال يجب أن يتوقف، ولكن خلق مساحة إنسانية حياتية لا يمكن الاستهانة بجدواها، لأن الموسيقى نشاط إنساني قريب إلى القلب. ممارسة فنية عالية تستهدف فك عقدة الموت والحروب، ومنح الأجيال الجديدة من مختلف الشعوب، فرصا أخرى للحياة خارج منطق الموت والبحث عن سلام الروح. وحتى يكون للأوركسترا وضعا اعتباريا، فقد حولاها هو وصديقه الذي أسسها معه، إلى مؤسسة تخضع للقانون الأمريكي أطلقا عليها اسم: “مؤسسة بارينبويم – سعيد”، ومقرها إشبيلية. وقد ارتحلت الفرقة عبر الكثير من العواصم العالمية بما فيها فلسطين وإسرائيل، حاملة رؤية أخرى لحياة ممكنة بين الشعوب، وقدمت رؤية أخرى للموسيقى في خدمة سلام كان صعبا وما يزال لأنه من طرف واحد هو الطرف الفلسطيني، بل ومستحيلا أيضا لكن المحاولة تستحق التقدير حتى ولو كان ذلك في ظروف قاسية
إن خوض التجربة عن طريق الموسيقى كان مسألة حيوية بالنسبة لإدوارد سعيد، التي تمددت حتى في جانبها التعليمي، أي دعوة الناس إلى الموسيقى، الهدف الأسمى، وضرورة تعلمها. وكتب مقالات عديدة تلح على ذلك: “التعليم من خلال الموسيقى” كانت المؤسسة من وراء منجزات موسيقية مهمة منها تدعيم مشروع “أكاديمية دراسات الأوركسترا”، ومشروع “التربية الموسيقية في فلسطين” للمحرومين من كل إمكانية تفتحهم على العالم، إضافة إلى مشروع إنساني مهم “التعليم الموسيقي المبكر للأطفال في إشبيلية”. لم يكن اختيار هذه المدينة اعتباطا ولكن جزءا من الاستراتيجية العامة للمصالحة مع الفن. إشبيلية في زمانها، شكلت نموذجا للتآخي الإنساني على الرغم من الاختلافات الدينية والطائفية والعرقية، فكانت مساحة للموسيقى والحياة الفنية الراقية التي ما تزال تجلياتها إلى اليوم واضحة في البلدان المغاربية من خلال فن المالوف والموسيقى الأندلسية بمختلف مدراسها وطبوعها.
لم يمنح الزمن لإدوارد السعيد زمنا طويلا لكي يستمر بفاعليته أكثر، ولكنه عاش عصره بامتلاء كبير. توفي في 25 سبتمبر 2003 عن عمرٍ ناهر السبعة والستين عاماً بعد أن أنهكه مرض اللوكيميا الذي لم يسعفه طويلا على الرغم من كل المحاولات الطبية. كانت وصيته الأخيرة، أن تُحرق جثته ويُنثر رماده في الأرض العربية، وهو ما قامت به عائلته المكونة من شقيقته روزماري وزوجته مريم وابنيه نجلاء الممثلة المسرحية ومؤسِّسة المسرح العربي الأمريكي “نبراس”، ووديع، إذ نقل رماده في 30 أكتوبر 2003 إلى مقبرة برمّانا الإنجيلية، ببيروت.
أمران جعلا من وجوده داعما موسيقيا حتى في غيابه وهو ما يؤكد التأثير الذي مارسه على المجتمعات العربية وغير العربية. الأمر الأول تحويل سيرته “خارج المكان” إلى سيمفونية قام بها الموسيقي محمد فيروز. الأمر الثاني، فقد سمَّت جامعة بيرزيت سنة 2004، سنة بعد وفاته، مدرستها الموسيقية باسم “معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقا “تكريماً له واعترافا بجهوده الموسيقية والإنسانية. وسيستمر إشعاعه الكبير طويلا في مجتمع عربي “ناشف” كم هو في حاجة إلى أنسنة يومياته القاسية.
.