فترة الثقافات المبكرة من تاريخ السودان القديم 12

0 74

.

بعض الإشكاليات في دراسة تاريخ السوداني القديم

يلاحظ في كتاباتنا عن الفترة المبكرة لتاريخ السودان القديم الانقطاع وعدم الترابط بين أجزائه، وأحياناً عدم التسلسل في تناوله. ويبدو أنه من أهم أسباب ذلك هو أن دراسة تاريخنا القديم تتم بصورة واضحة عبر حقب التاريخ المصري القديم. ويكفي أن نلقي نظرة عامة على قوائم محتويات كتب التاريخ السوداني القديم المتداولة حاليا كمراجع بين الدارسين سنجدها بصورة عامة تتبع تسلسل تاريخ مصر القديم في تتناول تاريخ السودان القديم. ومن أمثلة تلك المراجع المتداولة كمراجع لدارسي تاريخ السودان القديم:
كتاب “A history of the Sudan: from the Earliest times to 1821” آركل (1955م) وكتاب بخت الرضا “تاريخ الحضارات السودانية القديمة” تأليف عبد العزيز عبد الغني (1970) وكتاب “تاريخ السودان القديم” محمد ابراهيم بكر (1971) وكتاب “النوبة رواق افريقيا” وليام آدمز (1972) وكتاب ” تاريخ الحضارات السودانية القديمة منذ أقدم العصور حتى قيام مملكة نبتة” سامية بشير دفع الله (2011) وكتاب “السودان القديم: تاريخه وثقافاته وحضاراته ” خضر آدم عيسى (2010).

تبدأ تلك المراجع بدراسة تاريخ السودان القديم بالعصور الحجرية، ثم تنتقل إلى المجموعة الثقافية أ (أطلقنا عليها حضارة ما قبل قسطل) وتتم دراستها كتاريخ سياسي بارتباطها بعصري ما قبل الأسر المصرية والأسر المبكرة التي شهدت نهاية واختفاء حضارة المجموعة أ كما يرد في تلك المراجع. وبالرغم من أن مملكة تاستي قد تم التعريف بها منذ ثمانيات القرن الماضي إلا أنها لم تجد مكانها بعد في مراجع تاريخ السودان القديم التي أُلفت بعد هذا التاريخ.

ثم تنتقل الدراسة إلى المجموعة الثقافية ج، وتتم دراسة تاريخها السياسي من خلال تاريخ الدولة المصرية القديمة حتى وقوعها تحت الاحتلال المصري. ويلاحظ أن مراجع تاريخ السودان القديم المتداولة تناولت المجموعة الثقافية ج قبل تناولها لحضارة كرمة وما قبلها، رغم أن ما قبل كرمة سابق بزمن طويل لظهور المجموعة الثقافية ج.
وربما كان السبب في ذلك هو الارتباط بأقسام فترات التاريخ المصري، إذ تتناول الدراسات المجموعة الثقافية أ (ما قبل قسطل) في عصر ما قببل الأسر ثم تتناول مملكة تاستي (مملكة قسطل) من خلال عصر الأسرالمبكر، ثم تتناول المرجع المجموعة الثقافية ج في عصر الدولة المصرية القديمة التي تلت عصر الأسر المبكرة. ويبدو واضحاً أن دراسة المجموعة ج التي ظهرت في القرن 23 أو 22 ق م قبل دراسة ما قبل كرمة التي ظهرت – في الدراسات الحديثة – في القرن 35 ق م يفصل تاريخ المجموعة الثقافية ج ويعزلها من مكانها الطبيعي في كرونولوجية تاريخ السودان القديم. فالوضع الطبيعي أن تتم دراسة حضارة كرمة وما قبلها مباشرة بعد مملكة تاستي.
وبعد دراسة المجموعة الثقافية ج ترجع المراحع إلى “حضارة كرمة” وتبدأ ذلك بمرحلة ما قبل كرمة. ولم تجد حضارة مل قبل كرمة العناية في كثير من مراجع تاريخ السودان القديم، ولم يتبين الربط بينها وبين حضارة كرمة. وقد تناولتها سامية بشير دفع الله (2011 ص 181-186) وفي مقالي السابق “فترة الثقافات المبكرة من تاريخ السودان القديم رقم 11” تناولت حضارة ما قبل كرمة وصلتها بجيرانها، وقد جعلت الدراسات الحديثة ظهورها نحو 3500 ق م، وأنها لم تعد منفصلة عن حضارة كرمة بل اعتبرها بعض الباحثين المرحلة المبكرة لحضارة كرمة. (Emberling, 2014, p 126)
وقد أولت مراجع تاريخ السودان القديم حضارة كرمة اهتماماً كبيرا، تناولت تطور أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية ووصفت معالمها الحضارية وعلاقتها بالدولة المصرية الوسطى (2050-1786 ق م) لكن أغلب تلك المراجع لم تربطها بكوش، بل كما عبر عبد القادر محمود (ص 55) واصفاً رواد الدراسات السودانية القديمة:
“لم يعرفوا للحضارة المسماة حضارة كرمة دولة، وأنهم لم يعرفوا لكوش الدولة الناشئة حضارة. فقد ظلوا يعاملون الإثنين معاملة شيئين منفصلين لا علاقة بينهما ردحاً من الزمن.”

وقد ذكر آركل (Arkell, p 114) إن رايزنر في اكتشافاته المبكرة في منطقة نبتة ومروي أطلق على المملكة اسم “مملكة اثيوبيا” وهو الاسم الذي عرفه بها اليونانيون والرومان. لكن الباحثون بعده أطلقوا عليها اسم “مملكة كوش” ويواصل آركل موضحاً أنه لكيلا يختلط مدلول اسم “اثيوبيا” اليوناني الذي يدل على المملكة السودانية القديمة في أذهان الطلبة السودانيين مع مفهوم “اثيوبيا” الدال على دولة اثيوبيا الحالية فإنه استخدم مسمى “مملكة كوش” للدلالة على العصر النبتي والمروي. وبالطبع فهذا اجتهاد منه تبعه فيه الكثير من الباحثين.

ويقول توروك (Torok, p xxi) “إن استخدام مصطلح كوش في هذا الكتاب محدود الدلالة هنا للدلالة على مملكة كوش التي قامت بعد نهاية الاحتلال المصري لمنطقة النيل الأوسط وحتى القرن 4 م”
ويرى لوبان (Lobban, p 235) إنه من الصعب التمييز بين كرمة وكوش، ويستخدم مسمى كرمة للفترة الزمنية بين 2050 – 1500 ومصطلح كوش بعد ذلك حتى نهاية مروي في القرن الرابع الميلادي. ويعلل لذلك بأنه لا تتوفر قائمة أو أسماء ملوك من كرمة، كما وأن حدودها الجنوبية غير واضحة، فالباحثون يستخدمون حتى الآن مصطلح كرمة للرجوع إلى منطقة كرمة الحالية.

ورغم أن بعض مؤرخي التاريخ القديم مثل رتشارد لوبان وديفد إدوارد (Lobban, p xxv; Edward, p112 ) يعتبرون أن قيام مملكة نبتة يمثل إحياءً وامتداداً لمملكة كوش في كرمة إلا أنهما يطلقان اسم كوش على الفترة النبتية المروية فقط.
ويوجد الآن توافق بين الباحثين في تاريخ السودان القديم على أن حضارة كرمة تمثل المرحلة الأولى من مراحل مملكة كوش، وأن المرحلة الثانية تبدأ بقيام المملكة في منطقة نبتة. غير أن بعض الباحثين لا يزالون متمسكين بأن مملكة كوش تبدأ بالفترة النبتية حتى بعد توسع مملكة كرمة حتى الشلال الأول ومخاطبة ملك الهكسوس لملك كرمة في القرن بالكوشي في القرن 17 ق م.

وترى سامية بشير دفع الله (2011 ص 225) أن “غالبية الكتاب يميلون الآن إلى مساواة كوش بكرمة وذلك منذ ظهور الاسم “كوش” لأول مرة في نقش الملك المصري سنوسرت (1971-1928 ق م)، وتتحدث (2011، ص 228) عن تطور الملكية الكوشية في كرمة، إلا أنها (سامية 2005، ص 2) ذكرت إنها استخدمت اسم “مملكة كوش” للدلالة على الفترة النبتية المروية فقط وأوضحت أن استخدام لفظ “كوش” في السودان أقدم بكثير من هذا التاريخ.

ومن جانب آخر فقد تناولت بعض مراجع تاريخ السودان القديم حضارة كرمة باعتبارها المرحلة الأولى لمملكة كوش. ففي تقسيمه لعصور تاريخ السودان القديم بدأ عبد القادر محمود (ص 4) بما قبل كوش، ثم عصر كوش في كرمة، ثم كوش في الفترة النبتية والمروية. كما تناول خضر آدم عيسى (ص 61) حضارة كرمة باعتبارها مرحلة مملكة كوش الأولى، ونبتة بداية مرحلة كوش الثانية.

وقد استقر الرأي الآن على تحديد موقع كوش بأنه يقع في منطقة كرمة الحالية. وأن مرحلة كوش المبكرة تبدأ عام 3500 ق م وتتضمن مراحل كرمة القديمة وكرمة الوسطى وكرمة الكلاسيكية. (Emberling, Geoff 2014, P 127) كما سنتناول ذلك لاحقاً. ولذا فإنه ينبغي علينا – وبخاصة في وضع مناهج التعليم العام – اتباع تقسيم مملكة كوش الثنائي: المرحلة الأولى في كرمة، والثانية في نبتة ومروي.

وأخيراً يلاحظ أيضاً أن أغلب دراساتنا لتاريخ السودان القديم تتبع المنهج الغربي الذي اختطه الرواد الأوائل مثل رايزنر وبدج وآركل وآدمز. ورغم الجهود التي قام بها الكثير من الباحثين في الخارج والداخل من مراجعات إلاّ أن الواقع يتطلب المزيد من جهود الباحثين لا سيما في الداخل. فعلى سبيل المثال ما تزال المؤتمرات العالمية في تاريخ السودان القديم تعقد تحت عناوين الدراسات النوبية والدراسات المروية، وكلا العنوانين لا يعبران عن جغرافية تاريخ السودان القديم.

كما إننا في حاجة إلى مراجعة تقسيم حقب تاريخ السودان القديم والمصطلحاته المستخدمة في دراسته وتقديمه بصورة مستقلة عن التاريخ المصري القديم. ورغم ان دراسة تاريخ السودان القديم قد انفصلت عن التاريخ المصري القديم إلا أن صدى ذلك الارتباط لا يزال يتردد في كتاباتنا.

فعلى سبيل المثال نسبة لعدم وجود تواريخ كربون 14 لآثار المجموعة الثقافية أ (ما قبل قسطل) فقد أُرخ لها بمواد فترات ثقافة نقادة المصرية التي وجدت في مناطقها. فيقولون مثلاً هذا الحدث أو الأثر للمجموعة أ يرجع إلى الفترة الأولى أو الثانية لثقافة نقادة دون ذكر التاريخ بالأرقام. يتكرر ذلك كلما تم الرجوع إلى تأريخ أثر أو حدث للمجموعة أ فيأتي إلى جانبه ذكر نقادة. وبالمثل عند دراسة مملكة تاستي (مملكة قسطل) يتم التأريخ لآثارها وأحداثها بعصر ما قبل الأسر المصرية أو بعصر الأسر المبكرة، وعلى هذا المنوال. وهكذا ارتبطت التعريف بأغلب أحداث وآثار تاريخنا المبكر بذكر أحداث وعصور التاريخ المصري.

وبالطيع فإنه لا اعتراض على استخدام التواريخ المصرية لتأريخ بعض أحداث تاريخ السودان، بل لا بديل لذلك في بعض الأحيان. لكن الاعتراض يأتي على التأريخ بالعصر أو الحقبة المصرية بدلآً من الرجوع إلى تواريخ تلك الحقب أو الفترات بالأرقام لأنها معروفة لدى الباحثين. فمثلاً عندما عندما نؤرخ لأثر ما في ثقافة المجموعة أ نقول إنه يرجع إلى العصر الثاني لثقافة نقادة، بدلاً من ذلك أرى أن نرجع إلى تاريخ العصر الثاني لنقادة فنقول: ” يرجع تريخ هذا الأثر لثقافة المجموعة أ إلى عام 3600 أو 3500 حسب تأريخ أقسام ثقافة نقادة. وهكذا لا يتم الرجوع لتأريخ أحداث تاريخ السودان المبكر بذكر الحقب المصرية بل بذكر تواريخ تلك الحقب، ويكون القارء على علم مسبقاً بإن هذه التواريخ أخذت بالمقارنة إلى الآثار المصرية.

كما نحن في حاجة إلى مراحعة جغرافية تاريخنا القديمم لكي يكون شاملاً لكل مناطق السزدان. وكنت في وقت سابق قد تقدمت بمقترح لتحقيب تاريخ السودان القديم (صحيفة سودانايل الالكترونية، 18 أبريل 2022) أعيد نشر أقسامه الرئيسة هنا بقليل من التعديل من أجل المزيد من النقاش.

الثقافات المبكرة حتى القرن 5 ق م
الثقافات المبكرة على النيل
الثقافات المبكرة غرب النيل
الثقافات المبكرة شرق النيل
حضارة ما قبل قسطل (المجموعة الثقافية أ)
مملكة تاستي في قسطل
عصر كوش الأولى من الألف الرابع حتى الألف الثاني قبل الميلاد ويشمل:
الوحدات السياسية التي وردت في الآثار المصرية مثل واوات وستجو وإرثت ويام ومدجو. وهي الوحدات التي عاشت في نفس المنطقة التي قامت عليها حضارة المجموعة الثقافة ج، والبان قريف.
الثقافات الني عاصرت كوش الأولى في شرق وغري النيل
عصر مملكة كوش الثانية فترتي نبتة ومروي.
ونواصــل …

ahmed.elyas@gmail.com


المراجع
خضر آدم عيسى، (2010) السودان القديم: تاريخه، ثقافته وحضارته، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر.
سامية بشير دفع الله (2008)، تاريخ مملكة كوش: نبتة ومروي, الخرطوم: دار الأشقاء للطباعة والنشر.سماية بشير دفع الله (2011)، تاريخ الحضارات السودانية القديمة من أقدم العصور حنى قيام مملكة نبتة، الخرطوم: دار جامعة السودان المفتوحة للطباعة.
عبد القادر محمود عبد الله (2017)، السودان القديم كما وثقته الأدلة النصية القديمة، القاهرة: الدار العالمية للنشر والتوزيع.
Arkell, A. J. (1955) History of the Sudan: from the Earliest times to 1821, University of London.
Edward, David N. (2004) The Nubian Past: An Archaeology of Sudan, Londo: Routledge.
Emberling, Geoff (2014) “Pastoral States: toward a Comparative Archaeology of Early Kush” ORIGINI, XXXVI.
Lobban, Richard, (2006) Historical Dictionary of Ancient and Mesieval Nubia, Lanham, Maryland & Oxford.
Reisner,G. A.(1918) “Outline of the Ancient Hitory of the Sudan” Sudan Notes and Records. Vol. 1. Part 2.
Torok, Laszlo, (1997) the Kingdom of Kush: Handbook of the Napatan-Meroitic Civilization, Leiden, New York and Cologne.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.