الحزب الشيوعي والجذرية الوطنية فيما بعد الحرب العالمية الثانية: في ميلاد عبد الخالق محجوب الخامس والتسعين (5)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
محمد أحمد داؤود من جند عبد الخالق محجوب للشيوعية لا هنري كوريل
صادف يوم 23 سبتمبر المنصرم مرور 95 عاماً على ميلاد أستاذنا عبد الخالق محجوب (1927). ومما يحجب إشراقة مأثرته فينا وفراستها بؤس مُشاهد في دراسة الحركات السياسة والاجتماعية. فقيام الحزب الشيوعي في منظور هذا الهرج الدراسي حقيقة “عبد خالقية” أوحى له بها هنري كوريل (اليهودي ودي لازم) في مصر مثلاً. والمعلوم خلاف ذلك. فهو حزب نشأ بدون عبد الخالق الذي كان في نهاية المدرسة الثانوية وقتها. ففكرنا السياسي مضرب عن النظر للظاهرة مثل الحزب الشيوعي في حواضن عصرها السياسة والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ليس لدور الزعيم فيها غير أنه كان قطب رحاها. فإذا تأملت سؤال الطيب صالح: من أين جاء هؤلاء الناس؟ الذي صار تميمة معارضة ضد الإنقاذ سترى بوضوح أن السؤال إدانة للحركة الإسلامية كدسيسة تاريخية لا تاريخاً في شكل حركة بنت زمانها. وحين لا نرى الحركة السياسة الاجتماعية إلا بمنظار زعامتها نسقط من اعتبارنا المئات من الناس الذين لبوا نداءها بأثر من التاريخ الذي فيها والمجتمع الذي أنشأها كما لبى الزعيم الحجل بالرجل. وحدث أن درست الحركة الإسلامية على هذا النهج فلم أكتف بدراسة حسن الترابي بل تطرقت لسيرة حسن مكي وجار النبي وكيف وجدا نفسيهما في الحركة التي بشر بها. جاءا الترابي لأنهما هو نفسها اعتملت فيهما مفردات اجتماعية اعتملت فيه وكان الأول بين أسوياء.
وأنشر في ذكرى ميلاد أستاذنا على “التيار” مقالات منجمة عن ميلاد الحزب الشيوعي في حاضنة الوطنية والاجتماعية التي استفحلت جذريتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية كما جاء في شهادة أبكار الحركة أو سيرهم: محمد محمد خير، محمد خوجلي، مصطفى السيد، التجاني الطيب، الجنيد علي عمر، عبد القادر حسن إسحاق، فاروق أحمد إبراهيم، الجزولي سعيد. وجوهر هذه الجذرية كان اقتحام الجماهير من عمال ومزارعين خاصة ميدان السياسة، الذي اقتصر على صفوة الخريجين حتى ذلك الوقت، من أوسع أبوابه النقابية. وسنتطرق في البداية للتجسيد الاستثنائي لهذه الجذرية في الحزب الجمهوري الذي كان أول من شق عصا الطاعة على حركة الخريجين نفسها وخرج من حلقيتها للجماهير.
تابع الدكتور عبد القادر حسن إسحاق
أتيح لي أن التقي بدكتور عبد القادر حسن، الذي عرفنا أمس كيف انضم للحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) بواسطة الدكتور لاحقاً مصطفى السيد، في حديث طويل أخذت هذه الجوانب التي اتصلت بالجذرية الوطنية.
سؤال عن نشاط يساريّ ذلك الزمن؟
حكيت ليك عن الندوة الني نظمها مؤتمر الشباب السوداني (الذي خرج عن حستو كما سنعرف عنه أكثر في رواية الدكتور فاروق محمد إبراهيم عنه) في مؤتمر الخريجين. كانت هناك فكرة أنو اسماعيل الأزهري والأشقاء سيقبلون بمشروع التدرج الدستوري الذي رتبه البريطانيون عن طريق الجمعية التشريعية (1948). وكنت نعتقد أن ذلك القبول خطأ. ولذا عملنا حملة منشورات ومظاهرات عمت أم درمان والخرطوم لحد ما أزهري تنازل ورفض الجمعية التشريعية. وقال لن نقبلها ولو جاءت مبراة من كل عيب.
وأذكر من نشاطاتنا زي حصلت زي فجوة غذائية بقول في غرب السودان . . .
-ما مجاعة، فجوة
-هي مجاعة طبعاً ولكن زي ما بقولو الجماعة الطيبين ديل بسموها فجوة الكذابين ديل (الإنقاذ) فأرسلنا وفداً على رأسه حسن ابو جبل. فألقى خطاباً وسير مظاهرة استجاب لها المواطنون في الأبيض. وكان شعارها تسقط حكومة الجوع تسقط حكومة العطش. فالمظاهرة اكتسحت الأبيض اكتساحا. كان عندنا علاقة مع حزب الأشقاء وفي تنسيق بينا لكين لا حضروا اجتماعاتنا لا حضرنا اجتماعاتهم كل واحد براهو. تنسيق مظاهرات حاجات زي دي لكين العمل التنظيمي كل واحد براهو. النشاط كان برضو في بحري شديد وبورتسودان برضو. عوض عبد الرازق دا مشى بورتسودان. ما كان في فترة من الفترات ساب التنظيم هنا ما لاقي عيشة. فهو سكرتير مشى قعد في بورتسودان وعمل عمائل ما معقولة. عمل نشاط سياسي كبير جداً. ولكن شعلة العمل الوطني نمرة واحد كانت عطبرة. وكانوا يسمونها عاصمة الحديد والنار والفضل كله لقاسم أمين. وتليها في الأهمية الأبيض. كانت شديدة.
التجاني الطيب
التجاني الطيب تحدثت إليه بمكتبه بجريدة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعي، في يوم 5 فبراير ٢٠٠٩.
انتمى التجاني الطيب للحركة الشيوعية في مصر حين دخلها طالباً في نهاية ١٩٤٦ ولكن ليس قبل أن يشارك، في سياق الحماسة الوطنية التي انتظمت البلاد، في مظاهرة سيرها طلاب المدارس العليا في مارس ١٩٤٦ لمناصرة طلاب مصر.
شهدت ١٩٤٦ نهوضاً سياسياً كبيراً. فقد نشأ وفد السودان في سياق المفاوضات المصرية البريطانية. وجرى توديعه في حشود كبيرة. وودعه الطلاب كأفراد ولكن بحماس جماعي. وكان في الوفد أحمد خير والأمير نقد الله ومبارك زروق وحسن الطاهر زروق وهم في شرخ الشباب.
كان لمفاوضات صدقي-بيفن مترتباتها في السودان. فقد جاء صدقي وقال للمصريين: “جيئتكم بالسيادة على السودان”. أغضب ذلك حزب الأمة فسير مظاهرة كبيرة ضد الوحدة مع مصر. ورد عليها الأشقاء بمظاهرة وحدوية. وأعقب الأنصار الأشقاء على نادي الخريجين بأم درمان فكسروا الأثاث والكراسي. وفي المواجهات كسروا سن الزميل عباس علي الذي صار فيما بعد من قادة الحزب الشيوعي وحركة المعلمين الديمقراطيين.
وفي ذلك العام اندلعت مظاهرات طلابية في مصر قتل فيها طالب مصري بالإسكندرية. وقد استفز هذا طلاب المدارس العليا. وبعد نقاش نظموا مظاهرة في مارس 1946 اسموها “مظاهرة سلمية حداداً على طلبة الاسكندرية” على لافتة في حجم أكبر من ورق الفلسكاب قليلاً. وقد حمل هذه اللافتة أحد المتظاهرين وسار أمام الموكب. وكانت تلك المظاهرة الأولى بعد مظاهرة ١٩٢٤. وكان الطلاب على وعي بهذه الحقيقة وهم ينظمونها أو يسيرونها.
وكان بالكلية نحو مائتي طالب (مئة وثلاثون قدامي وسبعون جدد من دفعة تجاني التي هي أكبر الدفع). نظموا أنفسهم في أربعات تكونت من خمسين صفاً. وتحرك الموكب من امام اتحاد الطلبة (موضع معهد الدراسات الآسيوية الأفريقية الحالي) واتجهت غرباً. وكان عبد القادر مشعال هو رئيس اتحاد الطلبة وفي المقدمة. فرأوا مفتش الخرطوم راكباً حصانه وتقدم المظاهرة. فصاح مشعال: مظاهرة صامتة قف. فوقفت. وتكلم مشعال مع المفتش قائلاً هذه مظاهرة طلاب صامتة ضد الوجود الإنجليزي ولا نقبل أن تكون أنت على رأسها.
فمضى الخواجة أدراجه. ولكنه عاد. وكرر مشعال اعتراضه وهدده بأن يفض التظاهرة ويحمله المسؤولية عن ذلك. ففات الخواجة. (تجاني لا يدري وجه التهديد الذي أخاف الخواجة). سارت المظاهرة على شارع عبد المنعم (أمام البرلمان القديم) ومع الترماي بشارع السيد عبد الرحمن. ولما صاروا قصاد دائرة المهدي لفوا بشارع الجامعة (فيما بعد). وكان فيها من الطالبات خالدة زاهر وسركيس أزمرليان وآنجيل إسحاق. ومن القادة أخوه أحمد الطيب بابكر، والحارث حمد (من دفعة تيجاني) وعبد القادر حسن، ومصطفى السيد (بعد سؤالي عنه). ورجّح أن يكون مصطفى من دفع سبقتهم في السنة الثانية أو الثالثة. ولم يُقبل مصطفى في كلية الطب التي كانت تقبل عاماً وتفط عاماً. ولم يكن مجيء مصطفي في عام قبول. وكان في التظاهرة (. . .) قناوي وعبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة عضو مركزية الحزب الشيوعي لاحقاً. وكانت الحماسة للمظاهرة غالبة وقد أعدى الحماس حتى من ترددوا في الأول.
في عام النهوض ذلك سافر التجاني وصحبه إلى مصر. وقام التجاني إما يوم 30 أو 31 ديسمبر ووصل في أوائل يناير 1947. وكان عبد الخالق محجوب قد سبقه وسافر في أكتوبر 1946. وقُبل تيجاني بكلية الهندسة جامعة فؤاد الأول (القاهرة).
وجدت دفعة تيجاني، وهي بتلك الحماسة الوطنية، من دعاها للشيوعية فلبت. ولم يأخذ منهم ذلك وقتاً. وكان الواسطة في الدعوة محمد أحمد داؤود (الذي عمل مؤخراً في مصلحة التعاون). وكان دفعة تيجاني وصديقهم وذهب قبلهم. وهو الذي دل عبد الخالق على الأفكار الماركسية. وربما تأثر داؤود، بأصله في النوبة، بالنوبيين المصريين اليساريين. وربما اتصل داؤود بالحركة السودانية للتحرر الوطني قبل سفره.
كان نوبيون في مصر في الحركة المصرية للتحرر الوطني التي انضموا إليها وفيها عبده دهب ونوبيون آخرون. وكانت هناك منظمة إسكرا التي ضمت عمر محمد إبراهيم وسعد أمير طه. وقال إنه ثارت حزازات بين المنظمات تورط فيها السودانيون كذلك. ولكن توحدت الحركتان في 1947 باسم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حديدتو).
ونسمع في المرة القادمة من الأستاذ عبد الخالق محجوب نفسه.
.