سباق التسوية الزاحفة والانقلاب الزاحف
كتبت: رشا عوض
.
ما اتمناه هو إسقاط النظام واقتياد البرهان وحميدتي وكل المجرمين والمفسدين الكبار والصغار في العهد البائد إلى المحاكم المؤهلة لمحاكمتهم أمام قضاة مؤهلين أخلاقيا وفنيا، وتصفية إرث الانقاذ في الفساد والاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان ضربة لازب، وبناء دولة جديدة على انقاض الدولة الحالية( بناء جيش جديد وشرطة جديدة وجهاز أمن جديد وتسريح المليشيات وكتائب الظل، بناء خدمة مدنية مهنية ونزيهة ومنظومة عدلية جديدة ونظام اقتصادي وتنموي جديد ونظام تعليمي وصحي جديد .. الخ) هذه هي أمنيتي العظيمة والنبيلة التي أتشاركها مع ملايين السودانيين والسودانيات الذين دفع بعضهم حياته في سبيلها!
أما الواقع فيقول ببساطة شديدة هذه الأمنية العزيزة لا يمكن الوصول إليها حاليا! ولكن بعسر مخاض نضالي وبتنظيم صفوف المقاومة والتسلح باسلحة التغيير وعلى رأسها جبهة مدنية للتحول الديمقراطي موحدة وملتحمة عضويا بفعل ثوري نابع عن وعي ثوري ومحروس بجماهير حقيقية على الارض، ولها قيادة من بناة الأمم الحقيقيين، ولها موارد بشرية ومالية تؤهلها لخدمة التغيير باقتدار ..باختصار امتلاك ( عدة الشغل السياسي)، بكل ذلك نستطيع فتح الطريق نحو تلك الأمنية، والانتقال جديا عبر تسوية تاريخية تنتزع من العسكر والنظام القديم مكاسب للشعب السوداني، فينتقل إلى مرحلة القابلية للتغيير بعد “انتزاع أرضية سياسية محررة” ينطلق منها العمل في مشروع تأسيس الدولة السودانية التي نريد ( دولة مدنية ديمقراطية تنموية ، بوصلتها مضبوطة في اتجاه التقدم المطرد في تحقيق سلام ورفاه وكرامة وحرية وسيادة المواطنين السودانيين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية والاثنية والثقافية والجهوية)، اي ان يكون تحقيق تلك الأمنية العزيزة عملية تاريخية تتم بتدرج وتمرحل.
مشكلتنا الأساسية في ذلك هي عدم امتلاك ما يكفي من “عدة الشغل”!
وبدلا من السعي الجاد في سبيل صيانة ما هو موجود من عدة شغل، وجمع القطع القوية المبعثرة منها وامتلاك انواع جديدة تنضاف اليها، فإننا بكل اسف نهدر الطاقة والزمن في العراك حول صوابية خيار التغيير الجذري والتسوية السياسية، بل يخلق البعض عقيدة للولاء والبراء السياسي على اساس ان اهل التسوية هم اهل الكفر بالثورة ومستودع النجاسة السياسية مقابل الجذريين اهل الايمان والطهرانية الثورية!! ويتم تسميم المناخ العام على هذا الاساس! في حين لا يمتلك اصحاب “التغيير الجذري” و”التسوية السياسية” على حد سواء عدة الشغل اللازمة والكافية لإنجاز اي من الخيارين على الوجه المطلوب!
التغيير الجذري
اصحاب التغيير الجذري الذين يقولون يجب أن يذهب البرهان وحميدتي إلى كوبر ليست لديهم حتى الآن إجابة منطقية على سؤال منطقي وملح جدا : ما هي او من هي القوة المادية التي ستقتلع البرهان من القصر الجمهوري او من مكتبه في القيادة العامة للجيش وتودعه في سجن كوبر؟ لو لم تتوفر القوة التي ستفعل ذلك وبشرط ان تكون من خارج الجيش والدعم السريع ( يعني جيش ثوري له برنامج للتغيير مفصل على أهداف الثورة)، فسوف تكون النتيجة الحتمية هي ان يذهب البرهان إلى كوبر ويحل محله برهان جديد في الغالب من كيزان الجيش! وحتى نبدأ في عملية ترويض البرهان الجديد او الإطاحة به سنجد أنفسنا مجددا محاصرين بسؤال (عدة الشغل)! وهذا في حال قبول الدعم السريع بالانقلاب الجديد وهو احتمال مستبعد، فالراجح هو وقوع اشتباك مسلح بين الجيش والدعم السريع يدخل البلاد في دوامة حرب مفتوحة على الجحيم.
وقصور خطاب التغيير الجذري لا ينحصر في عدم امتلاك القوة العسكرية اللازمة لاقتلاع العسكر، بل ليست هناك مؤسسات سياسية وإعلامية واقتصادية تساند هذا المشروع الذي لم يفرز حتى الان قيادات بمقدرات تناسب حجم اهدافه المعلنة.
مأزق التسوية السياسية
أصحاب التسوية أيضا في مأزق كبير ومعضلة من العيار الثقيل ، لأنهم لا يميزون بين نوعين مختلفين من التسوية، النوع الأول هو صفقة سياسية مصنوعة بقوة دفع دولي واقليمي وفق مرجعية دستورية تتضمن أهداف الثورة والتحول الديمقراطي نظريا، ولكن أطراف الصفقة من المدنيين يعانون من الضعف الفني والمؤسسي ويفتقرون للمشروعية الشعبية الكافية ،وبالتالي هم غير قادرين على تنفيذها عمليا ،وبعضهم غير راغب اصلا في تنفيذ محتواها الديمقراطي الذي سيكون مصيره كمصير نصوص العدالة واعمار وتنمية قرى النازحين واللاجئين في اتفاقية سلام جوبا وغيرها من اتفاقيات السلام المفصلة على اقتسام غنائم السلطة بين القيادات فقط! فكل ما سيتم تنفيذه من الصفقة هو قسمة المناصب الوزارية، وتزيين الوضعية الانقلابية بغطاء مدني وبيع الاوهام للشعب عبر النصوص الدستورية حول انسحاب الجيش من العملية السياسية والعدالة والاصلاح الأمني العسكري.. الخ ، ومثل هذه التسوية حتما ستكون معزولة ومهددة بالانهيار في زمن قياسي.
النوع الثاني هو “التسوية التاريخية” التي تنقل مجمل الأوضاع إلى مربع جديد مختلف نوعيا عن المربع القديم، مع استمرار بعض وليس كل مصالح النظام القديم، ووجود بعض وليس كل شخوصه ، ولكن بشرط أن يكون وجود القديم محكوما بالإطار السياسي والدستوري والقانوني الجديد وبقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، كيف تستطيع قوى التسوية التاريخية اجبار العسكر والنظام القديم على الانتقال إلى هذا المربع؟ وكيف تنتزع منهم وصايتهم على النظام السياسي وتزحزحهم عن امتيازاتهم غير المستحقة في السلطة والثروة، وتجعل انخراطهم في عملية سياسية ديمقراطية بوزنهم وحجمهم الطبيعي حُكم ضرورة لا يملكون الالتفاف عليه؟ هذا السؤال أيضا يعود بنا إلى( عدة الشغل ) ! فالنظام القديم وكارتيلات المصالح المرتبطة به حتما لديها “الخطة باء” في شكل هجمات مرتدة على التحول الديمقراطي اما لإفشاله تماما وإما لافساده واعاقة مؤسساته عن تحقيق مطلوبات التغيير لصالح أغلبية الشعب، وحبس هذه المؤسسات في سجن مصالح الاقلية ، مواجهة كل ذلك تحتاج لكتلة سياسية للتغيير كبيرة ومنظمة، وذات مشروعية وسند شعبي حقيقي، كما تحتاج لفهم عميق للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، والقدرة على فك شفرة العلاقات والمصالح في مناطق النفوذ والسيطرة داخليا وارتباطاتها وتشابكاتها الاقليمية والدولية، وحيازة أدوات العمل السياسي والاعلامي والقانوني المستوفي لمعايير الاحترافية والمؤسسية ، وامتلاك القدرة على بناء التحالفات الذكية داخليا وخارجيا لخدمة مشروع التغيير.
” التسوية التاريخية” ليست خيارا مجانيا سهلا، بل تحتاج إلى نضال وتضحيات ومواجهات، وتحتاج إلى موجة مقاومة صاعدة، ووجدان شعبي موحد وحالة مد ثوري تشبه 6 ابريل 2019 او 19 ديسمبر 2021 ، فكل تغيير كبير وحقيقي لا بد ان يأتي محمولا على موجة صعود ثوري يصادف قيادات سياسية من بُناة الأمم وصانعي التاريخ، باختصار تحتاج”التسوية التاريخية” شأنها شأن التغيير الجذري إلى ” عدة شغل” فعَّالة قبل وبعد التسوية.
السؤال الذي يتحدى بذات الدرجة خياري “التسوية التاريخية” و” التغيير الجذري” هو: أين عدة الشغل؟ الراسخون والراسخات في الخيارين حتما ستتكامل ادوارهم ويتعاونون في حل هذه المعضلة، لأن وجهتهم النهائية واحدة مع اختلاف الوسائل والأدوات، أما اسطوانة المزايدات والتخوين باسم الجذرية ، فهذا عبث طفولي متعمد ومنزوع البراءة! ومصنوع من قبل أصحاب المصلحة في إعدام فرص العمل المشرك، وتعميق حالة الانقسام والتشرذم لصالح الانقلابيين الحاليين او لتمهيد الطريق لانقلاب زاحف قوامه الاسلامويون الذين يريدون طي صفحة ثورة ديسمبر نهائيا والعودة الى محطة “إنقاذية” كاملة الدسم.
إشكالية التسوية الزاحفة
منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 كان يجب ان ينخرط الفاعلون السياسيون السودانيون الراغبون في اسقاط الانقلاب وتأسيس فترة انتقالية ناجحة تقود الى تحول ديمقراطي في بناء كتلة سياسية موسعة وقوية مرتبطة عضويا بالشارع بصورة تجعلها طرفا قويا ومستقلا في معادلة توازن القوى، ومن ثم تصبح قادرة على فرض شروط التسوية التاريخية.
ولكن لم يحدث ذلك، ونتيجة لفشل الفاعلين السياسيين في الأخذ بزمام المبادرة، وحالة الشلل السياسي للانقلاب بسبب الصراع المكتوم بين القوى العسكرية من جيش ودعم سريع ودخول روسيا على الخط في دعم الانقلاب، تقدم المجتمع الدولي بمنابره المختلفة : الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة ممثلة في بعثة يونيتامس والاتحاد الأفريقي والإيقاد) والآلية الرباعية للوساطة (تتكون من أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات)، هذه الآليات تسعى لتسوية سياسية تؤسس لانتقال بقيادة مدنية عبر الحوار بين كل المكونات السياسية والانقلابيين وصولا الى صيغة توافقية للانتقال.
التدخلات الدولية بطبيعتها تتعامل ببراغماتية مع ما هو موجود في المسرح السياسي وتحاول ان تتوصل عبر ما تملك من كروت ضغط التوصل الى حالة من الاستقرار، وقد توصل الفاعلون الدوليون والإقليميون الى ان الانتقال الناجح في السودان يحتاج إلى قاعدة سياسية واجتماعية موسعة لاستيعاب كل القوى السياسية ذات النفوذ الاجتماعي والتأثير السياسي في الترتيبات الدستورية للفترة الانتقالية بما في ذلك شركاء نظام البشير حتى سقوطه، وما يسمى بأطراف سلام جوبا التي شاركت في “انقلاب البرهان- حميدتي” وما زال قادتها أعضاء في مجلس السيادة الانقلابي ، وعلى هذه الخلفية جاءت مشاركة أحزاب المؤتمر الشعبي والاتحادي الأصل وجماعة أنصار السنة المحمدية وعدد من ممثلي الحركات المسلحة الشريكة في الانقلاب مثل حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، بالإضافة الى مشاركة نوعية من “قوى الحرية والتغيير” ، وممثلين للجان المقاومة وللمهنيين وشخصيات عسكرية متقاعدة ومنظمات مجتمع مدني، مشاركة كل هؤلاء في ورشة “الإطار الدستوري الانتقالي” التي نظمتها اللجنة التسييرية لنقابة المحامين في الفترة من 8 – 10 أغسطس 2022 ، وقد كنت شخصيا حاضرة للورشة من بدايتها الى نهايتها، وعلى خلفية اوراق العمل في الورشة والمناقشات التي تمت، تبلورت مسودة لدستور انتقالي تم نشرها في الصحف للنقاش العام.
أين المشكلة في كل ذلك؟
المشكلة من وجهة نظري هي ان الشروع في اي عملية لاستعادة الانتقال يجب ان يكون ببناء جبهة التحول الديمقراطي وحشد قوى الثورة الحقيقية في اصطفاف سياسي قوي، ويصدر عن هذه المنصة المدنية الديمقراطية إعلان سياسي متوافق عليه، ثم الشروع في بلورة الاطار الدستوري داخل صف التحول الديمقراطي وبأقصى درجة مشاركة ممكنة من القوى الديمقراطية، وإذا كان الواقع المحلي والضغوطات الاقليمية تقتضي اي تفاهمات سياسية مع قوى اسلاموية او احزاب ظلت في حكومة البشير حتى سقوطه ، فإن هذه الخطوة يجب ان تتم بعد انجاز مهمة بناء النواة الصلبة لكتلة التحول المدني الديمقراطي، لأن سدنة النظام البائد مثل الحزب الاتحادي الأصل والقوى الإسلاموية كالمؤتمر الشعبي وانصار السنة والحركات المسلحة الموالية للانقلاب، كل هؤلاء يستحيل كسب دعمهم لمشروع التحول الديمقراطي وأهداف الثورة بالحكمة والموعظة الحسنة أو بالانخراط معهم في مناقشة ترتيبات دستورية، المنهج الصحيح في التعامل مع مثل هذه القوى هو ذات منهج التعامل مع العسكر، أي ترجيح كفة التحول الديمقراطي بتوحيد وتقوية جبهته، وتعميق تأثيرها وارتباطها العضوي بالقواعد الشعبية، ومن ثم اكتساب وزن كبير ونوعي في معادلة توازن القوى على الأرض ،ومن هذه الأرضية الصلبة المحروسة بالجماهير تنطلق اي مناقشات او تفاهمات مع العسكر او وكلائهم ، مع الاسلامويين او وكلائهم دونما خوف من اختطافهم للمشهد، وستكون اليد العليا في هذه المناقشات لأجندة التحول الديمقراطي لأنها صادرة من طرف قوي ومؤثر.
السودان سيظل فيه مواطنون إسلامويون وأنصار سنة ومنتمون للاتحادي الأصل وسدنة مؤتمر وطني، وأرادلة حركات مسلحة ولا يمكن تجريدهم من المواطنة او حقوق الإنسان، كل المطلوب هو إحداث تحول سياسي ديمقراطي يجعل الخيار الوحيد المتاح أمام كل هؤلاء هو قبول الوضع الجديد والتكيف معه. هذا هو فهمي لعدم الإقصاء وتوسيع قاعدة الانتقال. اما ان يشارك سدنة النظام البائد وسدنة الانقلاب الماثل الآن في ترتيبات الانتقال فهذا يطرح سؤالا: من أي شيء نحن منتقلون إذن؟
وصفة الانتقال الجديدة
أعلنت قوى الحرية والتغيير في بيانها الصادر الأربعاء 12 اكتوبر 2022 ان “مشروع الدستور الانتقالي” هو أساس مقبول لإنهاء الانقلاب وتأسيس سلطة مدنية حقيقية تنفذ مهام الانتقال الديمقراطي وقضاياه، وانها تلقت اتصالات من المكون العسكري تفيد بقبوله لمشروع الدستور كأساس للحل السياسي مع ملاحظات بسيطة، وختمت بيانها بالقول”تؤكد قوى الحرية والتغيير عدم صحة الأخبار المتداولة عن وجود أي اتفاق قد تم، وأنها لن تمضي في أي حل سياسي دون توافق عريض يشمل قوى الثورة والانتقال الديمقراطي”
هذا البيان مقروءا مع معطيات سابقة يؤكد ان “الحرية والتغيير” منخرطة بالفعل في عملية سياسية على اساس مشروع الدستور الانتقالي، وان أطراف هذه العملية السياسية هم الأطراف التي شاركت في ورشة الإطار الدستوري وعسكر الانقلاب بقيادة البرهان وحميدتي، وان العملية برمتها مدفوعة بإرادة دولية واقليمية، ضغطت العسكريين وأعادتهم الى الحوار السياسي بعد ان أعلنوا في يوليو الماضي انسحابهم من الحوار الذي تقوده الآلية الثلاثية وأنهم سينتظرون توافق المدنيين حتى يسلموهم السلطة.
واضح جدا ان المجتمع الدولي يريد طي ملف الأزمة السياسية في السودان بتسوية بين العسكريين والمدنيين تحقق نوعا من الاستقرار او على الاقل مغادرة محطة الشلل الانقلابي الراهنة ، ويبدو ان وصفة تحقيق الاستقرار من وجهة نظر الفاعلين الدوليين هي استيعاب بعض القوى الاسلاموية والحركات المسلحة الموقعة على سلام جوبا والاتحادي الأصل الى جانب قوى “الحرية والتغيير” التي اصبحت من وجهة نظرهم غير كافية لتمثيل المدنيين كما كان الحال في ابريل 2019 .
كل ذلك يدل على ان المحرك الأقوى للعملية السياسية الراهنة هو القوى الدولية والاقليمية وليس الإرادة الذاتية للفاعلين السياسيين السودانين،
“الحرية والتغيير” منذ وقوع الانقلاب لم تفعل ما كان يجب عليها من “فعل يوازي المرحلة” ، أي الرجوع الى الشعب والاعتراف بما ارتكبته من أخطاء استراتيجية في الفترة الانتقالية وعلى رأسها الانقطاع عن الشارع وتقزيم الانتقال باحتكار قيادته لشلليات، وجريمة اتفاق سلام جوبا على سبيل المثال لا الحصر، ومن ثم تشرع في اصلاح نفسها بصورة هيكلية وتدفع ذلك عربونا لتحالفات محترمة مع قوى الثورة الحية لتوسيع قاعدة الانتقال بأصحاب المصلحة في التحول الديمقراطي.
في ظل العجز الوطني عن تحقيق اختراق سياسي أطلت صفقة التسوية برأسها بقوة دفع من الخارج، وفي ظل تفكك الجبهة المدنية، وحتما سيجتهد الانقلابيون عبر التسريبات والفبركات الإعلامية في تحويل صفقة التسوية الى عامل انقسام جديد في الصف المدني، بل وفي “الحرية والتغيير” نفسها لتذهب الى التسوية في أضعف حالاتها.
جدل الداخل والخارج
إذا كان العامل الأول والحاسم في نجاح التحول الديمقراطي هو وحدة وقوة وتنظيم جبهته، فإن العامل الثاني والمهم جدا في ظل تعقيدات السياق السوداني هو بناء حلف استراتيجي مع أمريكا والدول الغربية، وذلك لأسباب موضوعية على رأسها ان السودان يعيش في محيط إقليمي معادي للديمقراطية، والقاسم المشترك الأعظم بين دوله هو الرغبة في تكريس حكم عسكري، التصدي لهذا المشروع الإقليمي الانقلابي يحتاج إلى كوابح من قوى دولية نافذة.
مؤكد هذه القوى الدولية لن تنوب عن القوى الديمقراطية السودانية في أداء”واجبها المنزلي” وهو تعديل ميزان القوى الداخلي لصالحها بتوحيد وتنظيم نفسها ، ففي حالة فشلها في ذلك، فإن القوى الدولية ستتعامل مع ميزان القوى الداخلي كما هو، فإذا لم تتوفر شروط “التغيير الجذري” أو”التسوية التاريخية” على الأرض فسوف يكون البديل هو إنتاج تسوية متواضعة جدا بمعايير التحول الديمقراطي.
الحقيقة التي يجب ان ندركها هي ان السودان في حد ذاته بالنسبة للسياسة الامريكية او الغربية ليس جندا مستقلا ومركزيا ، بل هو متغير في معادلات إقليمية مرتبطة بأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وبالتالي فإن نجاح خيار التحالف مع الغرب في كبح الانقلاب مشروط هو الآخر بأن تكون جبهة التحول الديمقراطي رقما داخليا كبيرا لا يمكن تجاوزه.
طبعا هناك من يريد حشر الواقع السوداني قسرا في سرديات نظرية المؤامرة الامبريالية الامريكية والاوروبية ضد الشعب السوداني وتصفية ثورته، ولكن الواقع يقول ان الضغوطات الأمريكية والغربية على العسكر كانت سندا للثورة في إفشال الانقلاب الأول بعد مجزرة فض الاعتصام، وأثناء الفترة الانتقالية أجاز الكنغرس الأمريكي في 11 ديسمبر 2020«قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية للعام 2020»،ومن أهم أهدافه تعزيز السيطرة المدنية على القوات العسكرية ومراقبة أموال الجيش والأجهزة الأمنية والعسكرية، وأصولها، وميزانيتها، والكشف عن أسهمها في جميع الشركات العامة والخاصة ومحاسبتها على انتهاكات حقوق الإنسان .
وبعد انقلاب 25 اكتوبر 2022 كان الموقف الأمريكي والبريطاني والاوروبي عموما هو مناهضة الانقلاب وتجفيف الدعم الدولي والإقليمي له، والتلويح بالعقوبات الفردية ضد الانقلابيين.
صحيح ان هناك انتقادات للدور الغربي في إنجاح الانتقال الديمقراطي في السودان حتى في الدوائر الغربية، مثلا حذر المجلس الأوروبي للسياسات الخارجية في تقرير نشر في يونيو 2020 عن الحكومة الانتقالية في السودان من أن تقاعس الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الاوروبي عن دعم الحكومة المدنية اقتصاديا يمكن ان يقود الى هيمنة العسكر الذين يتمتعون بإمكانات اقتصادية كبيرة ودعم اقليمي مقارنة بالمدنيين. كما تواترت انتقادات المبعوث الأمريكي السابق للسودان كاميرون هدسون للتراخي الدولي في التعامل مع قادة الانقلاب، وبالتالي فإن ترجيح خيار التحالف مع أمريكا والغرب ليس دعوة للاستقالة من الفعل النضالي ، بل مجرد ضبط لبوصلة العلاقات الخارجية وفق معطيات الواقع، وهو ضبط يمكن تغييره بتغير المعطيات.
ختاما
لو اكتملت التسوية الزاحفة حاليا، يجب ان ندرك ان السبب الرئيس لوقوع هذه الكارثة هو عدم امتلاك القوى الديمقراطية السودانية “لعدة الشغل السياسي” الكافية لفرض التغيير الحقيقي، يجب ان لا نلوم سوى انفسنا ونتفاكر حول تغيير ما بأنفسنا كخطوة اولى للمقاومة مجددا، فلا يمكن ان تنتهي ثورة ديسمبر المجيدة بسباق بائس بين تسوية زاحفة وانقلاب زاحف.