رأس المال الاجتماعي و المشروعية السياسية

0 73

كتب: ✍🏿: بكرى الجاك

.

مصطلح رأس الاجتماعي Social Capital الذي يعرَّف بأنه “شبكة العلاقات بين الناس الذين يسكنون و يعملون في مجتمع بعينه، حيث تساهم هذه الشبكات في أن يعمل المجتمع بشكل فعال”. و يشتمل رأس المال الاجتماعي علي التفاعل الايجابي للجماعات الاجتماعية من خلال العلاقات الشخصية بين الافراد، و الايمان بالهوية المشتركة و الفهم المشترك و العادات المشتركة، و الأهم هو الاشتراك في القيم و الثقة المتبادلة و التعاون و التكافل. و كل هذه الصفات توفرت في جُلّ الاجسام الثورية في لحظة ما ابان الحراك الثوري. و بعتبر راس المال الاجتماعي بمثابة المقياس للموارد الاجتماعية، بشقيها المادي المحسوس (الاماكن العامة و الملكية الخاصةو غيرها) و الغير محسوس (الفاعلين الاجتماعيين، عامة الناس، و راس المال البشري)، و تأثير هذه العلاقات علي الموارد المرتبطة بكل العلاقات و علي المجتمع بشكل عام. بعض الاكاديميين ذهبوا الي ربط رأس المال الاجتماعي بالسلع العامة Public Goods و المنفعة العامة Common Goods ، بالرغم من أن هذا الربط لا يتماشي مع كيفية قياس السلع العامة و المنفعة العامة.

من ناحية تاريخية و بالرغم من بعض الاشارات الي أن مصطلح رأس المال الاجتماعي يمكن ارجاع بروزه الى آواخر القرن التاسع عشر الا أن أول من استخدمه بشكل معرفي من حيث التوظيف كانLyda Hanifan ليدا هانيفان في مقال نشر عام 1916 عن دعم المدارس الريفية و ذلك من خلال نقاشه لرأس المال الاجتماعي كدلالة علي التلاحم الاجتماعي. و بشكل عام يأتي استخدام مصطلح رأس المال الاجتماعي في سياق جدل علماء علم الاجتماع في مسألة الحداثة و التحديث و علاقته بالفردانية كما ورد في كتابات كل من تونيز Tonnies 1887 و دوركايم Durkhiem 1893 و سيمل Simmel 1905 و ويبر Weber 1946 . و في خلال الثلاثة عقود الماضية أخذ المصطلح في العودة الي الدوائر الأكاديمية في كتابات توماس ساندرز Thomas Sanders عن الشبكات الاجتماعية التي تقوم علي الثقة و التكافل، و كتابات جيمس James Coleman عن وظيفة الشبكات الاجتماعية كهويات متعددة بخاصيتين مشتركتين تتمثلان في شمولهما جوانب من البنية الاجتماعية، و قدرة هذه الهويات المتعددة في تسهيل حركة و فعل الفاعلين الاجتماعيين. و لعلّ كتابات روبرت بتامRobert Putnam عن رأس المال الاجتماعي هي التي أعطت للمصطلح بعداً جديداً في العلوم الاجتماعية و جعله محل استخدام واسع النطاق و موضع اهتمام الباحثون في الحركات الاجتماعية، و تمركزت جل كتابات بتنام حول التبادل Reciprocity و الثقة المشتركة Trustworthiness بين الفاعلين في المجتمع المدني خصوصا، و خلص بتام الي أنه كلما زادت معدلات رأس المال الاجتماعي في أوساط المجتمع كلما كان المجتمع أكثر قدرة علي ممارسة ديمقراطية فعّالة من حيث الاستجابة للقواعد و بمشاركة مجتمعية واسعة.

هذا في شأن تعريف المصطلح و خلفيته التاريخية، أما في شأن توظيفه معرفيا في الحالة السودانية فبلا مواربة يمكن الجدال بأن من أهم عوامل نجاح الحراك الثوري في السودان في الفترة منذ 2013 الي حين وصوله الي قمة تبلوره في 30 يونيو 2019 (حين خرج السودانيون من كل حدب وصوب في القري و في الحضر يطالبون بالحرية و العدالة، هذا برغم قطع الانترنت وشبكة الاتصالات) تمثلت في التراكم الكبير لرأس المال الاجتماعي المتمثل في التفاعل الايجابي لكل الفاعلين السياسيين عبر علاقاتهم الشخصية الجيدة الكافية لخلق درجة من الثقة، و احساسهم بالهوية المشتركة و المصير المشترك والفهم المشترك و العادات المشتركة، و لم يكن غريبا بروز قيم التكافل و الاخاء و الايثار مثلما كان يحدث في محيط اعتصام القيادة العامة. و بلا شك يمكن الزعم أن أهم عوامل رأس المال الاجتماعي التي ساهمت في نجاح الحراك الثوري وقدرته علي هزيمة اكثر نظام باطش فى تاريخ السودان سياسيا و اجتماعيا كانت الثقة و التلاحم و التعاضد و التكافل. هنا الحديث لا يتم عن ثقة فرد في فرد كما هو في المعاملات التجارية او في العلاقات الخاصة بل في الشعور العام وسط الناس في كل ربوع البلاد، بل فى لاشتراك في قيم عليا من التآخي و رفض الظلم، و الاحساس بهوية مشتركة و هي هوية الانسان الثوري الذي لا مانع لديه بالتضحية بكل شيء في سبيل فتح أفق للمستقبل.

و يمكن المجادلة ايضا أن ذات رأس المال الاجتماعي هو مصدر الشرعية التوافقية التي أعطت الحكومة الانتقالية المقبولية الاجتماعية و الدعم، و صبر الناس علي الكثير في سبيل بلوغ الغايات الكبري. و رغم الضيق الاقتصادي و الضنك الذي صاحب محاولات تطبيق الاصلاحات الاقتصادية التي أجرتها الحكومة الانتقالية، اتفقنا أو اختلفنا معها من حيث المنهج و الترتيب، الا أن الناس كانت تتطلع الي المستقبل و صبرت علي كثير العنت و شظف العيش، بل كانت ردت فعلهم أاكبر بكثير تجاه الانقلاب في اكتوبر من ردة فعلها تجاه الضائقة المعيشية بلا جدال. و ما أن بدأ رأس المال الاجتماعي بالتآكل لعوامل شتي من بينها بطء الاصلاحات السياسية والأمنية و الادارية و القانونية، و تعالي أصوات النقد و التشكيك حتي بدأت الشرعية التوافقة بالنفاذ و هو أمر متوقع لكل متابع و قاريء لتجارب الانتقال السياسي. من السهل الآن القول أن قيام مجلس تشريعي باي شكل كان، بالااتخاب أو حتي بالتعيين وفق الشرعية التوافقية، كان سيعطي الحكومة دعما يمكنها من الصمود أمام النقد، و بالرغم من أن هذا محض فرضية نظرية الا أنه يمكن المجادلة أن تراجع الشرعية التوافقية كنتاج لنفاذ و تضاؤل رأس المال الاجتماعي كان بلا شكل سيؤثر علي اي جسم اكتسب شرعيته من هذا التوافق حتي و أن كان مجلس تشريعي معين أو منتحب. و هذا ما سيقودنا الى الحديث عن هذه اللحظة المفصلية في الحراك الثوري و عملية الانتقال السياسي فى البلاد.

اعتقد أن نفاذ و تراجع رأس المال الاجتماعي لم يؤثر فقط علي الحكومة الانتقالية وحسب بل أثر علي كل القوى الثورية، و لهذا أري أنه من الصعب استعادة لحظة العنفوان الثوري التي أعطت الشرعية التوافقية التي انتجت تسوية توازن الضعف في اغسطس من عام 2019. بل اظن أن الجدل الذي يدور حول مواثيق اللجان هو ليس ببعيد عن هذه الفرضية ايضا. في تقديري أن فكرة الميثاق هي عبارة عن منفستو لاجسام قاعدية ليس لها بناء هرمي و قيادة موحدة، و محاولة توحيدها بواسطة منفستو سياسي (و كأنما الاتفاق علي ثوابت سيحل مشكلة القيادة الموحدة بلا آليات تنظيمية) عبر هذه العملية منطقيا لا يمكن أن تتم بواسطة الشرعية التوافقية التي ايضا تعاني من تآكل رأس المال الاجتماعي مثلها مثل بقية الفعل الثوري. و عليه أري أن الغلاط و الجدل في هذا الأمر لا يمكن معالجته بأجلاء الحقائق حول ماذا حدث في توحيد المواثيق و لا حتي في نقد مدي قاعدية صناعتها في الاساس، أو حتي بالتدافع السياسي القائم علي الادعاء و الزعم بالتمثيل دون الاجابة علي سؤال من يحق له الحديث نيابة عن من؟ فالمشكلة بنيوية في الاساس، و ليس بامكان هذه البنيات (لجان المقاومة و غيرها من الاجسام) و بطبيعتها التنظيمية، و في ظل تراجع رأس المال الاجتماعي للعملية الثورية ككل(لعدة عوامل التي علي رأسها الغوفائية و التهريج و العمل المنظم للاجهزة الأمنية و يمكن التفصيل فيها في مقام آخر) أن تتجاوز هذا التطور البنيوي بمحض ميثاق بغض النظر عن المحتوي.

خلاصة القول أننا اما أن نعمل علي استعادة الحالة الثورية التي يمكن أن تعطي شرعية توافقية جديدة عبر التدافع الثوري أو أن نعمل علي انتاج شرعية توافقية تقوم علي الحوار بين القوي الثورية المدنية من أجل الوصول الي رؤية مشتركة للانتقال السياسي، كلا الأمرين يتطلب الاستثمار في رأس المال الاجتماعي عبر اعاة بناء الثقة حول قيم مشتركة عُليا و باعلاء روح التلاحم و التكافل و المصير المشترك، الا أن استعادة الحالة الثورية كما يقول التاريخ بالاضافة الي توفر رأس المال الاجتماعي في حاجة الي تضافر عوامل عديدة أخري من بينها الصدفة و اللحظة التاريخية التي ليس لها علم معرفي و مانيوال يمكن اتباعه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.