السودان.. “الإقلاع” عن الثورات

0 117

كتب: عثمان ميرغني

.

طرفة تحكي أن صحفيا أمريكيا شهيرا قال (يدهشني الرجل الذي يقول إنه لا يستطيع الإقلاع عن التدخين. لقد أقلعت أنا أكثر من عشرين مرة).. وفي السودان؛ يتباهى الشعب السوداني بأنه أقلع عن الدكتاتورية ثلاث مرات، بثلاث ثورات شعبية، وينتظر الرابعة.

الجمعة، مرت الذكرى 58 لثورة 21 أكتوبر 1964 التي أطاحت بالجنرال إبراهيم عبود، وحُظيت بمئات الأغنيات التي تمجد الثورة ويحفظها السودانيون عن ظهر قلب، وكان في ظن السودانيين أنها ثورة واحدة لن تتكرر مثلما الثورة الفرنسية.

ولكن بعد أربع سنوات فقط، عادت الدكتاتورية مرة أخرى بانقلاب الرئيس جعفر محمد نميري ومكث في الحكم 16 سنة، قبل أن “يُقلع” الشعب السوداني مرة ثانية عن الدكتاتورية – مثلما أقلع الصحفي الأمريكي عن التدخين- فينجز الثورة الثانية في أبريل 1985، ولم تمر سوى أربع سنوات أخرى حتى عادت الدكتاتورية بانقلاب عمر البشير في 1989.

وللمرة الثالثة “يُقلع” الشعب السوداني عن الدكتاتورية بثورة ديسمبر 2018 التي أنهت نظام البشير في أبريل 2019، وفي ظن الكثيرين أنها آخر مرة تتطلب “الإقلاع” عن الدكتاتورية، ولكن لم يمض أكثر من عامين حتى عاد السودان يبحث عن “إقلاع” جديد.

الدكتور منصور خالد، المفكر السياسي الأكثر تأثيرا في المكتبة السودانية، له مؤلف مشهور عنوانه (النخبة السودانية وإدمان الفشل) أفاض في تشخيص هذه الحالة السودانية، ولخصها بأنها ليست ثورات بل انتفاضات شعبية، ينتفض الشعب فيطيح بالنظام العسكري الحاكم، لكنه يستعيد كامل النظام المدني الذي كان سببا في الانقلاب العسكري، بعبارة أخرى أنها لم تحقق نصاب التغيير الموجب لمصطلح “ثورة”.

منصور خالد يعتبر أن معنى “ثورة” لا يتحقق إلا إذا أحدثت تغييرا يجعل ما بعدها مختلفا كليا عن ما قبلها، لكن إذا أبقت على القديم بلا تغيير فهي مجرد “انتفاضة” شعبية، مثل الذي “ينفض” عن ثيابه الغبار، ولا يغيرها.

ويبدو توصيف د. منصور خالد شاخصا بوضوح في الحالة السودانية، فبعد نجاح الشعب في الإطاحة بنظام الجنرال عبود في أكتوبر 1964 عاد النظام السياسي الحزبي بكل علاته، بل ربما بأسوأ مما كان عليه، وانشغلت الأحزاب بالمعارك الوهمية حول الكراسي والمناصب مع غياب كامل للتنمية، فأدى الوضع للانقلاب العسكري عليها في مايو 1969..

ونشرت صحيفة الأيام افتتاحية بعد يوم واحد من الانقلاب عنوانها “اللهم لا شماتة”، تصف فيها شعور المواطن العادي بعد الإحساس بالفشل نتيجة للطريقة التي أدارت بها الأحزاب البلاد فأدت للانقلاب العسكري.

الآن بعد ثلاث ثورات شعبية – أو انتفاضات في رأي منصور خالد- لا يزال السودان بحاجة للإقلاع للمرة الرابعة عن التدخين على حد وصف الصحفي الأمريكي، فما العلة التي تستديم هذا الفشل السياسي؟

علاوة على ما ذكره باستضافة منصور خالد في كتابه من تكرار استعادة النظام الحزبي الفاشل بلا تغيير في العقلية ومنهج التفكير بعد كل ثورة، فإن التشخيص الدقيق للحالة السودانية يكشف أن معايير الدولة الحديثة لم تتحقق إلى الآن بعد أكثر من 66 سنة منذ استقلال السودان في يناير 1956.

وللتدليل على ذلك، سأطرح مثالا واحدا، رغم كثرة الأمثلة، هو النزاعات الأهلية التي فجرت حروبا دموية بين المكونات القبلية والجهوية في السودان، وآخرها المعارك المشتعلة حتى الآن في ولاية النيل الأزرق والتي حصدت في أقل من أسبوع واحد أرواح أكثر من 200 مواطن قُتلوا بالرصاص وبعضهم بالحرق حيا أو الضرب حتى الموت، دلالة على الدرجة التي وصلت إليها مناسيب طوفان الكراهية.

هذه النزاعات التي تمتد من أقصى غرب السودان إلى أقصى الشرق والجنوب يجمعها رابط واحد، هو “ملكية الأرض” أو ما يطلق عليه في السودان “الحواكير”، وهو نظام موروث من الاستعمار يجعل لكل قبيلة حدودا جغرافية تدير فيها سلطتها بما في ذلك استغلال الأرض للزراعة أو الرعي.

هذا النظام فيه خلل بنيوي يجعل لامتلاك الأرض بواسطة القبائل صيتا مجتمعيا لا علاقة له باقتصاديات استغلال الأرض، مما جعل غالبية الأراضي الصالحة للزراعة بورا غير مستغلة، وفي التقارير الأممية أن السودان أعلى دولة في العالم من حيث مساحات الأرض الزراعية غير المستغلة.

وربما عبارة “غير المستغلة” لا تكفي لشرح الوضع – خاصة للقارىء غير السوداني- فالمقصود هنا أن الأرض تظل عذراء لا يمسها إنس ولا جان عبر الأزمان، وليس مجرد إهمالها لسنوات، فكثير من الأراضي الخصبة في السودان لم تستثمر على الإطلاق، والسبب أنها مجرد قلادة شرف في عنق القبيلة ليس مطلوبا منها إنتاجا أو حصادا.

هذا الوضع لا يتطلب مجرد إصلاح قانوني لملكية الأراضي ينزع عنها ملكية القبيلة ويجعلها أصولا عامة قابلة للاستثمار لمن استطاع إليها سبيلا فحسب، بل ورفع الوعي الشعبي عامة والقبلي خاصة بما يمكن أن يعود على المواطن من مصلحة مباشرة إذا قُيِضَت قيمة الأرض المجتمعية بالاقتصادية.

في ولاية النيل الأزرق – مثلا- يكابد المواطنون من كل القبائل شظفا في العيش، فالغالبية فقراء رغم توفر الأرض الخصبة والماء والثروات المعدنية خاصة الذهب، فإذا استشعر المواطن ما يمكن أن يعود عليه من مصلحة مباشرة في حال فتح الاستثمار على مصراعيه، فإن وعيه ينفتح على القيمة الاقتصادية للأرض بدلا عن المجتمعية، ويصبح مبدأ (الأرض لمن يفلحها) مرغوبا فيه بلا حاجة لفرضه بقوة القانون.

ذكرى ثورة أكتوبر، يجب أن تكون مناسبة لجرد حساب الثورات وليس مجرد تخليدها وترسيخ قدسية شعبية تحجب النظر الحصيف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.