علماء بزعمهم!!
طالعتنا هيئة علماء السودان ببيان يعترضون فيه على مشروع الدستور الانتقالي ٢٠٢٢، الذي أصدرته اللجنة التسيرية لنقابة المحامين. وقد ذيلوا بيانهم بعدد من الآيات القرآنية، منها الآية الكريمة القائلة: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينا للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). وفي البدء، دعونا نتساءل، استنادا على هذه الآية الكريمة التي استخدموها ليبرروا بها إصدار هذا البيان الهزيل المخزي: لماذا صمت هؤلاء الذين يسمون أنفسهم “هيئة علماء السودان”، صمت القبور عندما قامت اللجنة الأمنية بقتل الاف من الشباب في اعتصام القيادة؟ ولماذا صمتوا حينما جرى اغتصاب النساء في تلك المجزرة البشعة، بل وفي حرمة المسجد؟ ولماذا كتموا ما أنزل الله من البينات والهدى عبر الثلاثين عاما، التي ارتكب فيها نظام الإنقاذ من الفظائع من قتل وحرق للقرى في دارفور وغيرها من الولايات، ومن اعتقال وتعذيب للمعارضين السياسيين في بيوت الأشباح بلا استناد على أي قانون، ومن اغتصابات وتعذيب وحشي في المعتقلات سمع به القاصي والداني؟ ولماذا صمتوا عن قنص الشباب المتواصل في الشوارع منذ انقلاب 25 أكتوبر 2022 المشؤوم، وإلى اليوم، حتى تعدى عدد القتلى ١١٧ شهيدا؟ ألم يسمعوا بحديث النبي الكريم القائل: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)؟ أو لم يسمعوا أيضا بقول الله تعالى: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا)؟ وحديث النبي الكريم، القائل: (لئن تهدم الكعبة حجرا حجرا اهون عند الله من ان يراق دم إمرئ مسلم)؟ لماذا صمتوا عما جرى للمعلم الشهيد أحمد الخير، الذي أدانت المحكمة قاتليه؟ لم نسمع أنهم صدعوا بقولة الحق في كل هذه الجرائم البشعة وفي غيرها مما لا يتسع المجال لذكره في هذه العجالة، فلماذا يأتون اليوم، وبغير حياء، ليتباكوا بسبب وثيقة لا تزال قيد النظر والتداول، وقد عرضتها اللجنة التسيرية للمحامين لعامة الشعب السوداني للحوار حولها وتعديلها بما يدعم حقوق الإنسان، حريته وكرامته وإنسانيته؟
لا تستحي هذه الفئة التي جعلت من الدين مهنة تتقاضى في مقابلها الرواتب من الحكام الظلمة، أن تصمت حين يجب أن تصدع بقول الحق. ولا تستحي أن تخرج بمثل هذا الهراء، حين ينبغي أن تصمت. لماذا تتحدث هذه الفئة المرتزقة باسم الدين في أمور لا تفهم فيها، أي الدستور، بحكم نمط تعليمها القاصر، صرفا ولا نحوا؟.
قالوا في بيانهم الهزيل: (إن أهل العلم هم حراس الدين وحراس الشريعة وحراس الحقيقة). حسنا، إذن، حدثونا عن حد واحد من حدود الشريعة، كما تفهمونها، جرى تطبيقه طيلة فترة حكم الرئيس المخلوع عمر البشير. فهل أنتم مع صمتكم هذا حراس للدين كما تفهمونه، أم أنكم مجرد فقهاء للحكام الظلمة، تزينون لهم ما يصنعون، وإن خالف ما درستموه وما تعتقدونه؟ .
قلتم في بيانكم المتهافت: (إن أهل العلم هم حراس الدين وحراس الشريعة وحراس الحقيقة. فإن وهنوا أو قصروا أو تشاغلوا كان عقابهم مضاعفا وأنزل الله عليهم اللعنات). إذن ماذا تقولون في وهنكم وتقصيركم وتشاغلكم والبشير يقتل ويعذب ويغتصب ويسرق؟ ألم تدنه المحكمة في بعض جرائمه وتسجنه؟ وقالوا، أيضا، في بيانهم الهزيل المتهافت: (إن الروح التي أملت الوثيقة المعنية تصدر عن إنكار وازدراء للأديان لأن الوقوف على مسافة متساوية من كل الاديان هو كفر بها جميعا وهو قول ساذج). وقالوا: (ان الذي جاء في الوثيقة هو الإلحاد بعينه). فانظروا كيف عادوا إلى عادتهم القديمة في إتهام كل من يخالفهم الراي بالإلحاد. إذن، ما الفرق بينكم وبين الدواعش؟ بل إن الدواعش أصدق منكم. فهم يقاتلون كل الحكومات القائمة الآن لأنها لا تطبق الشريعة. أما انتم فتزينون لنفس هذه الحكومات ما تراه داعش باطلا صراح.
وقوف الحكومة على مسافة متساوية من جميع المواطنين على اختلاف دياناتهم هو الذي يضمن المساواة في المواطنة، كما يضمن السلم الاجتماعي. فالدولة الحديثة تقوم على المساواة التامة في الحقوق بين المواطنين؛ مسلمين وغير مسلمين، وكذلك على المساواة بين الرجال والنساء. هذا هو اصل الدين وجوهره الذي تجهلون، أو تتجاهلون. قال تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وقال: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). فلماذا تعارضون وقوف الحكومة على مسافة واحدة من جميع الأديان فتساوي بين المسلم وغير المسلم في حقوق المواطنة؟
قالوا في بيانهم الهزيل: “الرسول حكم وفيصل فإذا غاب ناب عنه أهل العلم الشرعي لا ينازعهم في سلطانهم إلا خبيث النفس أمار بالسوء خداع وكذاب”. انظروا كيف اجلسوا أنفسهم على مقعد النبي الكريم متحدثين باسم السماء!! هذا الذي تدعون لأنفسكم هو عين ما ادعاه الكهنوت الكنسي، في القرون الوسطى، حين انتحل سلطة السماء. فثارت عليه الشعوب وارست مبادئ الديموقراطية وحكم القانون. ورغم التجربة البشرية الطويلة التي دفعت فيها الإنسانية دما غزيرا وعرقا ودموعا من أجل الحرية والعدالة، تحاولون أنتم اليوم حماية اوهامكم بأنكم أصحاب سلطان. وتقولون إنه سلطان لا ينازعه إلا (خبيث النفس امار بالسوء خداع وكذاب). كل من يخالفكم الرأي خبيث النفس امار بالسوء خداع وكذاب، فأي عقول هذه التي تريدون أن تحكموا بها الناس؟ ومتى كنتم أنتم ساسة أوحكاما؟. لقد كان كل تاريخكم، منذ الفتنة الكبرى وإلى اليوم، اختباء وراء الحكام الظلمة.
لقد إنتهى في كل بقاع الأرض عهد الكهنوت الديني وانتحال سلطة السماء. ولم يبق منه إلا نذر يسير في عقول بعض المهووسين في السودان وأفغانستان. وكانت آخر الخارجين من هذه الحفرة هي المملكة العربية السعودية، التي لم نسمع لكم صوتا ينتقد خروجها البائن الذي يزداد كل يوم.
هذه الثورة الجارية الآن، ماضية نحو أهدافها المعلنة في تحقيق الحرية والسلام والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون وترسيخ مبادئ التعددية والتنوع. ولن تثنيها عن اهدافها ترهاتكم يا علماء السلطان.
والرحمة والمغفرة لشهدائنا الذين اغتيلوا ظلما وعدوانا ولم يجدوا نصيرا من علماء السلطان. وتمام الشفاء للجرجى والمصابين. والعودة السالمة للمفقودين والمخفيين قهرا وقسرا.
والثورة_ مستمرة_ والردة_ مستحيلة.