لماذا لم نتخذ النيل اسما لبلادنا ؟

0 103

كتب: جمال محمد ابراهيم

.

أقرب إلى القلب:
تتخذ معظم البلدان أسماءً لها، إمّا مِن تاريخها أو من جغرافيتها، ورموزاً تعبّر عن مجدها وعظمتها.
لأنّ الأنهار من مظاهر الجغرافيا الأكثر رسوخا ، بل خلودا على وجه البسيطة ، ستجد عدداً معتبراً من البلدان ، وبعد أن صارت دوّلاً وفق التقسيمات الكولونيالية الإستعمارية في القرن التاسع عشر ، أسـلاباً تقاسمها الأقوياء في العالم، خاصّة في القارّة الأفريقية . أطلق الأقوياء من الدّول المستعمرة وقـتها، أسـماء رموزهم على بعض الأقاليم وبعض الظواهر الطبيعية، كالأنهار والبحيرات والجبال، كأنْ ترى أكبر بحيرة في القارّة الأفريقـية هي بحيرة “فيكتوريا”، تخليداً للملكة فيكتوريا. ستجد مـدناً أنشـأها غرباء القوى الكولونيالية الاستعمارية في أفريقيا، وأطلقوا عليها أسـماء رموز تخصّ تاريخهم في أوروبا، وليس تاريخ شعوب في آسيا وأفريقيا وأستراليا.

مدينة “ستانلي فيل” في الكونغو- والإشارة للمكتشف الجغرافي ستانلي- وقد صار اسمها حاليا “كيسنقاني”، ومدينة “ليوبولد فيل” في الكونغو أيضاً ، من إسم ملـك بلجيكا “ليوبولد” الذي استعمر الكونغو، وأسموا ذلك البلد “الكونغو البلجيكي”، بلا أدنى حياء ، لو كان للكولونيالي البشع ضميرا يلهمه الحياء. قتل البلجيك في بشاعتهم باتريس لوممبا صانع إستقلال الكونغو. على عهد “موبوتو” تحوّل اسم العاصمة من “ليوبولد فيل” إلى “كينشاسا”.
كانت لأولئك “الكولونياليون” قناعة ، أنهم هم رسل الحضارة، وأنهم يستعمرون بلاداً لا تاريخ لها ولا ثقافة ولا حضارة . ومن عجبٍ أنّ من أبصرَ الحقائق عكـس ما رأى هؤلاء، هم علماؤهم الذين أسّسـوا علم الأنثروبولوجيا الإجتماعية، بعد دراساتٍ ميدانيةٍ لمجتمعات في أفريقيا وفي آسـيا وفي الأوقيانوس ، ليدركوا أنّ لكلِّ جمـاعة إنسـانية حضارتها وثقافتها ولغاتها وألسـنتها، فسـقطتْ مقولة رُسـل الحضـارة، وعبا رة “عـبء الرّجل الأبيض”، ممّا روّج “كيبلينج” في أشعاره، وشبعت موتاً بعد رحيله. إذ تبـيّـن للظالمين بعد الحربين العالميتين، أنّ لكلّ مجتمعٍ إنساني نظمُـهُ السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، ولا فضل لحضارةٍ على حضارةٍ، إلّا في الدرجة والأثر.

هكذا، بعد أنْ نالت بعض هـذه البلدان اسـتقلالها، فإنّهـا عمدتْ إلى التخلّص من تلك الأسماء التي أطلقها عليهم الغرباء، وتلك الزّموز التي تذكّر بالحقبة الاستعمارية الكولونيالية الظالمة.
عـددٌ من شعوب البلدان الأفريقية اتجهتْ لاتخاذ أسـماءٍ تتصل بتاريخهم ، لا تاريخ مستعمريهم. أعدّد لك أدناه قائمة ببعض أسماء دول أفريقية ، إتخذت أسماء رسمية لها، من رموزها التاريخية والجغرافية :
جمهورية الكونغو سُمّيتْ على نهر الكونغو،
جمهورية النيجر سُمّيت على نهر النيجر،
جمهورية زامبيا سُمّيت على نهر الزمبيزي،
جمهورية زيمبابوي (تقع على نهرين: زمبيزي في الشمال وليمبوبو في الجنوب)،
جمهوربة السنغال سُـمّيت على نهر السنغال،
جمهورية غامبيا سُـمّيت على نهر غامبيا،
تلاحظ أن أكثرهذه البلدان تسـمّتْ ىأسـماء معالم جغرافية .
إذا تقاسـم الاستعمار الفرنسي مع القوى العظمى، منذ أواخر سـنوات القرن التاسع عشر، بعض أقاليم القارة الأفريقية ، فاستأثرت فرنسـا بأكثر أقاليم غرب ووسط أفريقيا. سيطرت بريطانيا على شرق أفريقيا وسواحله الشرقية التي تؤمت عبور البحار إلى الهند والأقاليم الأبعد . ثم جاءت بلجيكا والبرتغال وصغار الكولونياليين الظلمة من أوروبا.
لعلنا نتذكّر في تلك الحقبة، والقوى الأوروبية تهجم على القارة الأفريقية لتسيطر عليها، كيف أنّ الجنرال البريطاني “كيتشنر”، وقد سيطر على الخرطوم واحتلّ السّودان، سارع إلى أعالي النيل ليواجه القوات الفرنسية الزّاحفة من الجنوب إلى الشمال، هناك عند “فشـودة” ليوقـفها عند حدودها وفق المفهوم الكولونيالي. كان التقاسـم باتفاق “جنتلمان”- كما يقولون – بين أساطين الكولونياليين ، ولا دخل له بالشعوب، فانسحبتْ القوات الفرنسية .

بعد أن وضعـتْ الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945م، وتوافـق العالم ومجتمعه الدّولي على قيام هـيـئة الأمم المتحدة، لتجنّب نشوب حرب، مثل تينك الحربين العالميتين، وليحافظوا على سـلامٍ يُسـتدام ، أجازتْ تلك الأمم، ميثاق وحدتا عام 1945م وشرعة حقوق الإنسان عام 1948م، حيث استشرفتْ البشرية حقـبة جديدة، نالت فيها أعدادٌ من بلدان القارة الأفريقية والآسيوية ومنطقة الشرق الأوسط اسـتقلالها. بعد أن امتد النفوذ الكولونيالي الفرنسي لعقـود طويلة في شمال أفريقيا ووسطها وغربها : الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا والسودان الفرنسي (مالي ) وتشـاد والكاميرون والنيجر وبوركينا فاسـو وتوجو وساحل العاج وبنيـن، فقد انحسرت تلك السيطرة الكولونيالية آخر أمرها وتراجعت. إذ نلاحظ أنّ الاستعمار الكولونيالي الفرنسي، هو الأقوى تأثيراً، والأوضح نفوذاً بحكم تغلغل روابط الثقافة واللغة الفرنسية، فإنّهُ ظلّ الأكثر عـناداً في البقاء في مستعمراته الكولونيالية السـابقة، حتى بعد نيلها استقلالها. الكولونياليون السابقون لم يقطعوا الخيوط ، بل أبقوها بروابط ذكية ، مثل “الكمونولث” و”الفرانكفونية”، وما شابه.
معظم البلدان التي أوردنا أعلاه، تقع داخل “الحزام السّوداني” التاريخي المعروف، ولكن لم تحمل أيّـاً منها إسم السًودان، إلّا بلدين “سـودانييـن” كبيرين، ومنذ أوائل القرن العشرين ، هما “السّودان الإنجليزي- المصري” وهو بلد واحد، و”السّودان الفرنسي” ويشار فيه لعدد من البلدان في غرب أفريقيا، ولكن أولها وأشهرها وما عرفت لاحقاً بإسم دولة “مالـي”. تخلّص البلد المسمّى السودان الفرنسي من إسـمٍ للونٍ ليسَ من لغته، فأطلق إسـماً جديداً من تاريخـه، هو “مالـي”. أمّا بقـية “الحواكير الكولونيالية” الفرنسية- وإن كان أغلبها يقع في داخل “الحزام السوداني” التاريخي – لكن لم يحمل أيّاً منها إسم السّودان. وحده “السّودان- الإنجليزي المصري” ، الذي احتفظ بالإسـم منذ اتفاقية الحكم الثنائي عام 1899م وحتى لحظة نيله الاستقلال عام 1956م وما بعدها. ذلك هو “السّـودان” الحالي. بعد أن نال استقلاله عام 1956م ، أسـقط صفة “الإنجليزي -المصري” من إسـمه، وبقي إسـم “السّــودان” .

ليس واضحاً ذلـك السبب الذي جعل صفوة المتعلمين السودانيين، وقد خاضوا معارك سياسية ضارية ، بتأييدٍ ومباركةٍ من طوائفهم الدينية ذات الوزن ، لنيل استقلالهم عن دولتي الحكم الثنائي اللتين سيطرتا وحكمتا البلاد، وفق اتفاقية الحكم الثنائي الموقعة بين ممثلي مصر وانجلترا عام 1899م، فلم تتفاكر النخبة بتروٍ حتى تتخذ إسـمٍاً للبلاد، يعكس تاريخها وجغرافيتها وإرثها الحضاري، بما يوافق المنطق والواقع. والملاحظ أنّ جيل الإستقلال من السياسيين السّودانيين، قد حسـم بعجـلةٍ أمرين حسبهما محض أمور شكلية : إتخاذ علم يرمز لاستقلال البلاد من ثلاثة ألوان ، أزرق وأصفر وأخضر، ثمّ صورة ترمز للبلاد، فاختاوا حيوان الكركدن . فلا كان العلم بألوانه تلك يشي بعبقرية تُحدّث عن تاريخ البلاد التليد، ولا كان الخرتيت وحده الذي يمثل جغرافيا البلاد، وهو حيوان يتفق أكثرنا على خلوّهِ من الجمال ومن الذكاء. يتسـاءَل الواحد كيف اعتمد ذلك الجيل الخيار الأول علماً، والثاني رمزاً. . ورأينا من حولنا بلداناً أفريقية اختارت من وحي تاريخها، ألواناً مركّـبة تركيباً جميلاً في تصميم أعلامها، ومن جغرافيـا غـاباتها الشاسـعة وحظائرها الأفريقية، غزلاناً أوأســوداً أو طواويس أوغرانيق جميلة ، رموزاً لها .

ترى أيّ عبقرية تلـك التي دفعتنا لاعتماد الخرتيت بحجّـةِ ندرته في القارة وتميّز كثرته في غاباتنا، ليكون رمزاً لبلادنا، ثمّ تلـك الألوان الثلاثة بمدلولاتها السّـطحية لتشكّل علـماً . حسـناً أنجـز جعفر نميري في سـبعينات القرن الماضي، بطرحه مسابقة أفرزتْ علمٍاً جديداً ورمزٍاً جديدٍاً، وإنْ شــابتْ ألوان العلم البديل تحفـظات. لكن يظلّ الوصول إلى الكمال مسعىّ، وليس لأربه نهاية.
أيّها السّـودانيون : عندكم تاريخ فيه من الثراء والتنوّع ما قد يدفعكم لخيارٍ أفضل لإسم بلادكم، بعيداً عن لون أطلقه غرباء لحزامٍ نعـتـزّ بانتمائنا إليه ، والذي تمتد بلـدانه وبمواصفات أعلامها ورموزها الحضارية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية ، إلى رقعةِ معتبرة من الأرض الأفريقية، إمتـدّتْ من سواحل البحر الأحمر شـرقاً، إلى سواحل المحيط الأطلسي غرباً. ولفـظ “السّـودان” هو من صياغة “البيضان” (من لون السُّـحنة البيضاء)، وأولئـك أجانبٌ وغرباءٌ وفيهم عناصر من الجزيرة العربية، جاءوا إلى القارّة الأفريقـية، يصفون بلغـتهم العربية ، أناسـاً لم يتعـوّدوا – إلا في نطاق ضيّق- أن يروا سُـحناتٍ سكان تلـك القارة التي تختلف عن سحناتهم. إذا أجلنا البصر على سكان بلدان ذلك الحزام ، سنجد أكثرهم يدينون بالإسـلام ، ويجيدون لغة القرآن، لكن لهم لغاتهم ولهجاتهم وألسنتهم الأفريقية التي ينطقونها شـفاهة، بل ومنهم من سعى لكتابتها. وذلك هو حال كثير من أهلنا حول النيل، إذ هم مسلمون لكن لهم ألسنة ولهجات ورطانات تخصّهم . . برغم ما لاحظنا على بلدان أفريقيا تلك الملاحظات المهمّة ، لكنّهم تخلصوا من إسـم “حزام السّودان” الذي أطلقه الغُرباء على أقاليمهم ، واتخذوا لبلدانهم بعد نيلهم الاستقلال، أسماء تتصل بثقافاتهم وإرث تاريخهم وجغرافياتهم. عجبتُ لقبائل “الأشولي” اليوغندية ، حين ثار بعضهم وتمرّد على المركز في كمبالا، رفعت طائفة منهم رايات المطالبة بالاستقلال عن المركز وتكوين دولة، مالوا لاطلاق إسم “دولة النيل” عليها. يعرف “الأشولي” في شمالي يوغندا نهرا واحداً إسمه “النيل الأبيض”. مأ أحقنا نحن بالإسـم ولنا نهران أبيضٌ وأزرقٌ.
أتسـاءل لماذا لم تفطن نُخبُنا ومنـذ الاستقلال، أننا في إقليم يجري عبره نهران عظيمان هما نهرا النيل الأبيض والنيل الأزرق، اللذان يتحدان ويمتزجان عند ملتقاهما في وسط البلاد، ليشكلا من الخرطوم بداية لنهرٍ واحدٍ مُتحـدٍ يتجه شمالاً إسـمه نهر النيل ، ليعبر واديه متمهّلا إلى مصـر ، حتى يصل مصبّه في البحر المتوسط. أما أوحى مزج النهرين يلتقيان في الخرطوم قلب السودان ، أن تستنطق نخبنا الجغرافيا، فتسمّى البلاد بعد الاستقلال بنهـرٍ من النّهرين أو بكليهما معاً. .؟
لو نظرنا لأيلولة الإسـم بعد أن انشطر السودان فعلياً إلى دولتين عام 2011م، واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب ، وباعتماد نظرة عجلى، فإنّ الأحقّ بالاحتفاظ بإسـم السودان على علاته العنصرية، هم ذوي السّـحنة السّوداء في الجنوب . وفيما لا يزال اعتماد لون السّـحنة وصفاً له ظلال عنصرية ، فسكان الشمال عموماً هم أقل سواد سُـحنة وأكثر سُـمرة، فيما سكان الجنوب أكثر سواد سُـحنة وأقل سُـمرة، وإن كانوا جميعهم أفارقة، تتباين ألوان سحناتهم . ذلك وحده يكفي اقناعاً يدفعنا لإسـقاط الوان سُـحنات البشـر للدلالة على الشعوب وأسماء بلدانهم . ترى هل من دولة في قـارة أوروبا تسمّت بإسـم “جمهورية البيضان”، أو من دولة في قارة آسـيا تسـمّت بإسم “دولة الصفر”. . ؟
لعلّ تخريجات أوصافٍ لهوية سكان البلاد ، كقولك “سودانوية” ، مع تقديرنا للجهد الفكري حول حيثيات ذلك الطرح، فإن الإسـم والمدلول، لم يبتعد عن اللون وإسقاطاته العنصرية.
إنّ نهر النيل والذي تتلاقى أفرعه عندنا، هوَ من بين أطول أنهار الدنيا، وله ربطٌ وثيقٌ بحضارتنا، وواديه يكبر ويتسع عندنا ، فما يمنعنا من اعتماده إسماً للدولة، ولإنْ شـئنا بعد ذلك، أن نعتمد علماً جديداً ورمزاً جديدأ، يعكسان معـاً واقعـاً حضارياً وثقافـياً واجتماعـياً، يتصل عميـقـاً بتاريخ البلاد، فإنّ ذلك شأنٌ آخر مستحب.
قال الشاعر القومي الأصيل ابراهيم العبّادي ، يشــير بأبسط لغة عامية ، إلى جغرافيا وتاريخ بلاده ، وذلك في قصيدة أنشأها في عشرينات القرن القرن العشرين : :
يَكفي النّـيل أبوْنـا والأصِـل سُـوداني
ألا يكفينا النّيل إسـماً ، ويبقى تاريخنا منتمياً لإقليم ذلك الحزام الأفريقي. . ؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.