عشنا وشفنا

0 77
كتب: جعفر عباس
.
سبحان الله فقد كنت يوما ما أمشي في الأرض مختالا لأنه صار عندي حمار ملاكي خصوصي اذهب به الى المدرسة، وكانت عندي سخلات أخواتي في الرضاع لأن أمي البرجوازية خصصت لي معزة كي انفرد بلبنها، وامتلكت قلم تروبن وأنا في المرحلة الوسطى، وصنعت له الحبر من حبوب زهرة الشمس (كان اسمها في السودان عباد الشمس ولكن تمت أسلمتها في عهد الكيزان)، وكان قمة الترف عندي ان أذهب الى كرمة واتناول طعاما في مطعم بحلاوة رغيف، ثم أركب في لوري لخمس دقائق على ان ندفع رسوما إضافية للسائق كي يضغط على البوق (البوري)، وكنت في إجازة في كوستي وانا في المرحلة الثانوية عندما أعطاني الطبيب حقنة، وعندما أحبرت أهل بيتنا بالأمر انهارت امي باكية على أساس ان الحقنة لا تعطى الا لمن يوشك على الموت غير ان بعض عقلاء العائلة قالوا لها: ان كبار الشخصيات VIP يتعالجون بالحقن كأمر معتاد وانه من المرجح ان الطبيب عرف ان جعفر طالب في وادي سيدنا الثانوية وخصه من ثم بمعاملة ومعالجة خاصة.
كانت أول ساعة امتلكتها من طراز رومر، وكان بها عقرب الساعات فقط، ولو سألني شخص من الوقت كنت أقوم بتقدير الدقائق (أحيانا بفارق 40 دقيقة بالزيادة او النقصان)، وكان عبد المجيد قناوي ناظر مدرسة بدين الأولية هو أول من جلب الراديو الى بدين، وكان جهازا ضخما وكنا مقتنعين بأن كائنا “بعيو” محشور داخل الراديو ويتكلم ويغني، ثم جاءتنا السينما المتجولة وأثناء عرضها لفيلم عن الزراعة توجه صبي نحو الشاشة ولمسها في اكثر من موضع فلما زجروه قال: إن جلّي مرجارا (الشغلانة دي كذب) ولا حقا قال لنا انه لمس الشاشة بينما كان هناك مزارع يسقي حقله ولكنه لم يجد اثرا للبلل على الشاشة، أما عندما سمعنا بالتلفون فقد استنتجنا انه رجس من عمل الشيطان عديل، فكيف ينقل سلك كلاما من شخص لآخر عبر المسافات البعيدة، ثم اختفت الأسلاك الهاتفية وصار الكلام “المطلوق” في فضاء الله أكبر يصل الى وجهته صرة في خيط بدون سلك وسيط، واليوم عندي تلفون عجيب: تلمس شاشته بطرف إصبعك ويلبي أوامرك، وكمان فيه كاميرا وفيه أي اغنية تخطر ببالك، وكي تطلب قونة مثلا عليك بتحديد المرمى بطرف الإصبع!! وفيه جميع درر حميدتي ومناوي بالصوت والصورة.
وكتبت كثيرا عن تجربتنا ونحن طلاب في مدرسة البرقيق الوسطى عندما اهتزت جدران المدرسة بسبب دوي هائل، ورأينا الناس من حول المدرسة يجرون في مختلف الاتجاهات فاندفعنا خارجين من حجرات الدراسة ورأينا كائنا معدنيا ضخما يحلق في دوائر حول المدرسة، فأيقنا ان اسرافيل نفخ في الصور، وانطلقت صيحات ويبيووو من الحناجر وتعالى الاستغفار، ثم سكت الهدير وعرفنا ان ذلك الكائن نزل بالقرب من مزرعة عمنا حسن خيري بالقرب من الدفوفة “قلعة نوبية قديمة”، وقال لنا المدرسون ان ذلك الشيء نوع من الطائرات يسمى الهليكوبتر، فتوجهنا لرؤيتها عن كثب فإذا بخواجة يشير الى بعضنا قائلا: تعالوا اركبوا، وأيقنا عندها ان الخواجة وكيل عزرائيل فانطلقنا هاربين، وحكى الوزير السابق عبد الرحيم محمد حسين وهو من أبناء المنطقة ان سيدة جاءت الى الحي جزعة وقالت للناس: نور دفوفن مولا سكوسو (ربنا نزل جنب الدفوفة)- استغفر الله.
ثم كان ما كان من ظهور خط ابيض طويل في الفضاء، فدب الذعر في النفوس وتعالت صيحات “يا الله يا لطيف عبدك الفاني الضعيف”، وانطلق الصبية يقرعون علب الصفيح الفارغة بينما اشعلت النساء النيران في مداخل البيوت لإعداد كرامة البليلة ،غير ان الإحساس وقتها لم يكن أن هناك ظاهرة طبيعية كالكسوف والخسوف بل أن القيامة قامت، بل وذهب وفد من رجال حلتنا الى العالم الجليل الحاج فرحان فوجدوه يتلو بصوت عال: وإذا السماء انشقت، فعاد أحدهم وهو يصيح: ويبيوو هاج فرهان قالت انشقت، (لم تكن انبشقت قد دخلت القاموس وقتها)، كنا وقتها نعيش في القرن العشرين بأجسادنا فقط فقد عرفنا بعد سنوات ان ذلك الخيط يتشكل عندما يتكثف البخار/الهواء الصادر من الطائرة النفاثة في طبقات الجو العليا الباردة.
الحمد لله عشنا وشفنا العجب في يوليو وفي رجب، والآن أجلسوا في كرسي الاعتراف وحدثونا عن تجاربكم مع المخترعات الحديثة: ما هو أكثر ما بهركم؟ أدهشكم؟ أخافكم؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.