أنصار النظام القديم وموكب 29 أكتوبر: ماذا نسوا؟ وما تعلموا؟

0 74
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
خرج يوم 29 أكتوبر المنصرم موكب باسم كتلة نداء السودان ليحتج على تسوية سياسية ذاع أنها تنعقد بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير وأخريات. وتجمهر الموكب أمام مبنى بعثة الأمم المتحدة التي هي من وراء التسوية، الموصوفة ب”الثنائية” لاستبعادها طوائف سودانية أخرى. وكانت البعثة جاءت بطلب من الحكومة الانتقالية المقالة في 25 أكتوبر 2021 وفق منطوق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتعينها على الانتقال الديمقراطي بعد ثورة 19 ديسمبر 2018. وشمل استنكار الموكب آليات ثلاثية ورباعية من سفارات عربية وغربية والاتحاد الأفريقي ضالعة في التسوية.
لم تخف على الناس هوية الموكب في تعبيره عن أنصار النظام القديم الذي أطاحت به ثورة ديسمبر، أو “الفلول” في عبارة خصومهم، وعزيمتهم على استعادة مواقعهم في الميدان السياسي. ولم تخف قوى النظام القديم، التي تعارفت مؤخراً باسم “التيار الإسلامي العريض”، أنها التي كانت من وراء الموكب. وإشهاراً لهذه الهوية سمى عادل الباز، الصحافي الإسلامي، التجمهر بموكب 4-4-1444 هجري لا من باب امتلاكه فحسب، بل من باب تبريكه عملاً خالصاً للدين.
لم يكن الموكب أول مواكب التيار الإسلامي في الشارع السياسي. بل لم يكف مسار هذه المواكب في وقت باكر من قيام الحكومة الانتقالية بصور مختلفة في الشارع، أو أمام أبواب المحاكم التي قاضت رموزهم، أو السجون التي احتفظت بالمعتقلين منهم، أو في تحالف مع قوى أخرى كانت لها أسبابها الخاص لمعارضة الحكومة الانتقالية.
ولكن موكب 29 أكتوبر كان خالصاً للتيار الإسلامي في شرط هبوب رياح سياسة مواتية في شراعهم. ومن ذلك أنهم استردوا بفضل الانقلاب أكثر مواقعهم في الدولة، وفي منظماتهم للدعوة والإغاثة وأعمال الخير، بجانب استعادة ثرواتهم المنقولة وغير المنقولة من براثن لجنة تفكيك نظام الإنقاذ (1989-2018). كما استعادوا النقابات والاتحادات، التي كانوا على سدتها لثلاثين عاماً حتى الثورة، وحلتها الحكومة الانتقالية. وكان القرار بعودتها لهم هي آخر ما جاءهم بحكم قضائي قبيل الموكب. بل استردوا بعد الموكب بيوم أو يومين نقابة المحامين التي كان القائمون عليها من كادر الحكومة الانتقالية قد صاغوا دستوراً انتقالياً كان محور عملية التسوية التي خرج الموكب ليحتج عليها.
أما الريح التي ملأت أشرعة التيار الإسلامي بالعزيمة فهي تفرق قوى الحرية والتغيير، حاضنة الثورة، شذر مذر. فانقسمت إلى قوى حرية وتغيير (مركزي) وقوى حرية وتغيير (توافق وطني). وانتبذ الحزب الشيوعي مكاناً قصياً منهما معاً حتى أنه لم يسحب عناصره من وظائفهم في الحكومة الانتقالية فحسب، بل دعا ايضاً إلى اسقاطها. وسقطت الانتقالية بغيره كما هو معلوم. واستقلت لجان الشباب للمقاومة بنفسها من فرط سوء ظنها بصفوة الأحزاب في قوى الحرية والتغيير. وهو سوء ظن قديم فشا خلال فترة معارضة هذه الأحزاب لنظام الإنقاذ وتقوى، مشاهدة، خلال إدارتها للحكومة الانتقالية. وصدق في اعتزال مكونات الحرية والتغيير بعضها بعضاً قولنا أن “سلام الله ما بينهم”.
لم يَرِد عادل الباز محقاً أن يكون حجم الحشد موضوعنا في وقت جعلت أطراف في قوى الحرية والتغيير غزارة التحشيد مبلغ همها. فقالت هذه الأطراف إنه كان صغير الحجم. ولم يكن كذلك. وقالت إن ما أغرى التيار الإسلامي للخروج بموكبه ظنه أن سيكون في غزارة استقبالات محمد طاهر إيلا الإسلامي وآخر رئيس وزراء دولة الإنقاذ. وكانت تلك الغزارة، في قولهم، غزارة قبائلية محض. وقالوا إنه موكب حشد كبار السن. وهذه حزازة ضد العمر لا تخيل على ثوري. وقالوا إن الإسلاميين عادوا لتعبئة أطفال الخلاوي (كتاتيب القرآن) بإغراء النوال والطعام. وكان بؤس حال هؤلاء الأطفال الربانيين مما يدعو للشفقة لا التبشيع.
استبعد الباز معيار الرقم في تقييم الحشد ليحلل سياسته بالأحرى. فقال، على بينة من لغة الدراما إنه، بالموكب، كسرت الحركة الإسلامية الحائط الرابع لتختلط بالجمهور مباشرة. وهو انتقال من خانة الوجوم، التي رأوا فيها نظامهم أنقاضاً بالثورة، والدفاع ما وسعهم إلى خانة الهجوم كاسرين احتكار قوى الحرية والتغيير وشباب المقاومة للشارع. فصار الشارع بعد الموكب رحب الجناب للجميع. وهذا مما سيجبر المجتمع الدولي على إعادة النظر في حساباته السياسة للانتقال الديمقراطي التي اعتاد خصم التيار الإسلامي العريض منها باللازمة “إلا المؤتمر الوطني”. فقد رأى هذا المجتمع بالموكب أنه ليس بالكم المهمل الذي ظنوه. فهو قادر على إرباك الساحة السياسة بغير اشتراط منه في المشاركة في الحكم.
وجدت الباز وعثمان ميرغني، رئيس تحرير جريدة التيار ذو الأصول في الحركة الإسلامية، اختلفا في مآلات الموكب. فالموكب في نظر عثمان من ترتيب النظام القائم الذي عليه الفريق عبد الفتاح البرهان والفريق حميدتي. فدرج النظام في قول ميرغني على زج أهل الثورة في معارك افتراضية يريد منها أن يشغل الجميع بها بينما تتقدم جحافله لاحتلال مزيد من الأراضي في الدولة. فيفرض في السانحة شروط النظام القديم وعناصره على قوى الحرية والتغيير دون إعادته هو بذاته. فإعادته غير واقعية في الملابسات العالمية والإقليمية. بل يرى ميرغني أن الميدان نفسه غير صالح ليلعب عليه النظام القديم كثرت مظاهراته أو قلت. وزاد الطين بلة في قوله إن النظام القديم الذي سير الموكب لم يجتهد في إعادة إنتاج نفسه من خلال مراجعات ذكية ناظرة للزمان والمكان. وزاد ميرغني و”كأني به يصر على معاندة الشعب السوداني بعدم اعترافه بأنه سقط بثورة شعبية”.
وليس الباز من رأي ميرغني. فرأى في كسر الموكب للحائط الرابع، في مصطلح الدراما، معانقاً الجمهور معنى مختلفاً جذرياً عنه. فالموكب في قوله بمثابة إعلان التيار الإسلامي العريض، مواصلاً المجاز الدرامي، عن ضيقه ذرعاً بالمكوث خلف الكواليس في انتظار المخرجين، البرهان وحميدتي، ليغيرا له المسرح والديكور. فلم يبخلا كلاهما بالوعود للتيار الإسلامي العريض بإدارة متوازنة للفترة الانتقالي لا تترك أحدا. ولكن وضح أنهما لا يملكان من أمرهما شيئاً. ومع أن عادل انتهى إلى أن التيار العريض لا يطلب محاصصة في السلطة التي يريدونها شاملة لكافة القوى السياسة لا ثنائية بين العسكريين والحرية والتغيير كما رشح. وسيكتفي التيار بالتمتع بحرية الحركة التي تسمح له فرض نفسه كلاعب في هندسة المستقبل.
وهكذا اختلف عادل عن ميرغني في صناعة الموكب ومدلوله السياسي. فميرغني يراه خدعة من العسكريين تذر الرماد في عين قوى الحرية والتغيير عن احتلاله المطرد لموقع في الدولة بعد آخر. ولكن يبدو أن الباز مفتوح الذهن مع ذلك ليرى أن السماء وحدها هي حدود الموكب الذي صنعه التيار الإسلامي. فخروج الموكب نفسه في قوله كان تمرداً على النظام مسلوب الإرادة القائم الذي لا يتبع الفعل بالقول. وعليه فعودة النظام القديم، الإنقاذ، للحكم واردة. فعادت طالبان، في قوله، للحكم بعد عقود من الغيبة عنه.
وربما عاد النظام القديم بحذافيره في سيناريو ما. وسيكون التحدي أمامه، وقد امتنع عن التصالح مع حقيقة سقوطه عن طريق ثورة، أن يأخذ نفسه بالسؤال عما نسيه وعما تعلمه خلال فترة استراحة المحارب لو شئت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.