1. تابعنا في المقال السابق تجربة تقويض الديمقراطية الأولي حتى قيام انقلاب 17 نوفمبر 1958م الذي مضي عليه 64 عاما ، وكان أول تجربة مريرة لانقلاب عسكري مر به السودان بعد الاستقلال عام 1956م ، كان الانقلاب انتكاسة للتجربة الديمقراطية التي لم يمض عليها أكثر من ثلاث سنوات ، قطع الانقلاب التطور الديمقراطي والتجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد التي لا يمكن أن تتطور وتزدهر الا بالمزيد من الديمقراطية ، بعد ذلك توالت الانقلابات العسكرية : انقلاب مايو 1969م ، انقلاب 30 يونيو 1989م ، انقلاب 11 أبريل 2019م وبعده انقلاب 25 أكتوبر الذي كان امتدادا له ، ودخلت البلاد في الحلقة الجهنمية ، وعاش شعبنا حوالي53 عاما من عمر الاستقلال البالغ 66 عاما في ظل أنظمة ديكتاتورية كانت وبالا ودمارا علي البلاد .
2 . ارهاصات انقلاب 17 نوفمبر ، اضافة لما اشرنا اليه في المقال السابق عن”تجربة تقويض الديمقراطية الأولي” ، فقد كان الانقلاب نتاجا للصراع السياسي والطبقي الذي بدأ مع إعلان الإستقلال والجمهورية بين القوي الثورية التقدمية التي تهدف إلي استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والثقافي ، وتحويل جهاز الدولة إلي جهاز ديمقراطي ، وسياسة خارجية متزازنة تدافع عن السلم والسيادة الوطنية وتتضامن مع الشعوب المستعمرة وحركات التحرر الوطني ، وضد الأحلاف العسكرية وإعادة الاستعمار الحديث باسم المعونة الأمريكية والقروض المجحفة التي تفقد البلاد استقلالها ، وقيام صناعة وطنية والقضاء علي سيطرة البنوك الأجنبية علي الاقتصاد السوداني ، وإجراء إصلاح زراعي جذري ، ووضع حد أدني للأجور وتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق الأجر المتساوي للعمل المتساوي ، وتوفير وتوسيع خدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي في حالات العجز والشيخوخة ، ووحدة الصف الوطني لتحقيق هذه المهام ، والسير قدما في إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية .
من الجانب الآخرالقوي اليمينية التي تهدف إلي خدمة مصالحها الطبقية بافراغ الاستقلال من مضمونه التحرري الشامل ، والسير في طريق التطور الرأسمالي الذي يكرس المزيد من الاستغلال والتبعية ، وإعادة الاستعمار بشكله الحديث الذي تقوده أمريكا بعد أن أفل نجم الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا ، وإلى إبعاد الجماهير عن توجيه شؤون البلاد بإنتزاع حقوقها الديمقراطية وتمزيق وحدتها ، وتقييد حقوق العاملين والمزارعين في تكوين اتحاداتهم والقمع غير الإنساني للمزارعين كما حدث في مجزرة عنبر جودة بعد الاستقلال مباشرة. وحاولوا خلق إنقسامات في النقابات واتحادات المزارعين واستخدموا ضدهم أجهزة الإعلام والرشوة وغير ذلك من الأساليب. “للمزيد من التفاصيل: راجع كتاب ثورة شعب: اصدار الحزب الشيوعي 1965م“.
3 . من الأسباب التي قادت لانقلاب 17 نوفمبر القنابل الموقوتة التي تركها الاستعمار بعد خروجه مثل : حرب الجنوب والانقسام الطائفي والقبلي والطبقات والفئات الرأسمالية وشبه الإقطاعية التي ارتبطت مصالحها به ، وجهاز دولة غير ديمقراطي ، وقوانين مقيدة للحريات ، إضافة للانقسام الذي حدث في الصف الوطني وخروج الختمية من الحزب الوطني الإتحادي ، ومحاولة القوي اليمينية تفتيت وحدة العمال عن طريق خلق مركزين أو أكثر للحركة النقابية ، وإقحام الصراع الحزبي وسط اتحاد المزارعين الذي ينبغي أن يضم المزارعين على إختلاف إتجاهاتهم السياسية. “راجع كتاب ثورة شعب“.
من جانب آخر حدث تضامن واسع مع حركات التحرر الوطني ، ورفض العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956م وحدث العدوان على الحقوق الديمقراطية لشعبنا والذي بدأ يزداد منذ تكوين الحكومة الإئتلافية الأولى بقيادة السيد إسماعيل الأزهري ، واجتماع السيدين الذي أدي للاطاحة بحكومة الأزهري ، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية وغيرها ،هذه القضايا كلها تفاقمت من خلال انشغال الجماهير الوطنية كما في (حريق العملة) ومعارك السباب والمهاترات.
4 . من جانب آخر كما هو معروف تصاعدت الحركة الجماهيرية التي رفعت راية الوحدة ومقاومة التدخل الاستعماري باسم المعونة الأمريكية ، وإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات ، وتشكلت جبهة واسعة داخل وخارج البرلمان ، ووصلت المقاومة ذروتها في الإضراب العام التاريخي الذي دعا إليه اتحاد العمال وتمّ تنفيذه يوم 21 أكتوبر 1958م ، وصحب ذلك الإضراب مظاهرات لا مثيل لضخامتها وتماسكها إشترك فيها العمال والمزارعون والطلاب وصغار التجار ، وبدأت الجماهير العاملة تبرز كقوة داعية للديموقراطية والوحدة والتقدم . كما ارتفعت شعارات الوحدة وسط الجماهير المعادية للاستعمار ولحكم القزى اليمينية التي عانت من انقسامات في صفوفها ، وأقتربت عناصر من نواب حزب الامة نحو القوى الوطنية ، وظهر جليا أن جبهة تضم أغلبية من نواب البرلمان قد تكونت وأنها ستطيح بحكومة عبدالله خليل وتقيم مكانها حكومة أقرب تمثيلا لمصالح الشعب .”للمزيد من التفاصيل : راجع ثورة شعب“.
في تلك اللحظات نقل الاستعمار الجديد والقوى اليمينية المرتبطة به معركة الصراع الطبقي من الأشكال البرلمانية إلى الأشكال الديكتاتورية المكشوفة ، نقلوا الصراع من حيزه السلمي إلى حيز اشهار السلاح في وجه الحركة الديموقراطية للشعب بتدبير انقلاب 17 نوفمبر 1958م.
5 . كان الانقلاب عبارة عن تسليم رئيس الوزراء عبدالله خليل بالتعاون مع الاستعماريين الأمريكان والانجليز السلطة للقيادة الرجعية في الجيش بهدف المحافظة علي كل المصالح الاستعمارية ووقف التطور الديمقراطي في البلاد ..
بعد انقلاب 17 نوفمبر بالهجوم علي الحقوق والحريات الديمقراطية كما
في : حل الأحزاب ومنع التجمعات والمواكب والمظاهرات ، ووقف الصحف حتي يصدر أمرا من وزير الداخلية ، وتم إعلان حالة الطوارئ ، ووقف العمل بالدستور وحل البرلمان ، بعد ذلك صدر قانون دفاع السودان لعام 1958م الذي صادر أبسط الحريات وحقوق الانسان وقرر عقوبة السجن الطويل أو الإعدام لكل من يعمل علي تكوين أحزاب أو يدعو لإضراب أو اسقاط الحكومة أو يبث الكراهية ، وتمّ تعطيل النقابات والاتحادات وأُعتقل القادة النقابيين “الشفيع أحمد الشيخ ورفاقه” وتقديمهم لمحكمة عسكرية إيجازية سرية كانت انتهاكا فظا لحقوق الانسان.
هكذا تمت مصادرة كل المكاسب والحقوق والحريات الأساسية والدستورية التي حققها شعبنا عبر نضاله الطويل الملئ بالتضحيات ضد الاستعمار : الدستور ، البرلمان ، الأحزاب السياسية ، النقابات ، الصحافة ، وكان ذلك بداية هجوم شامل هدفه تجريد الشعب من أدواته الرئيسية في الصراع لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية .
6 . صدر أول بيان للحزب الشيوعي بتاريخ: 18 نوفمبر 1958م يدعو لمقاومة الانقلاب العسكري واسقاطه واستعادة الديمقراطية، بعنوان “17 نوفمبر انقلاب رجعي“
بعد ذلك استمرت مقاومة الشعب السوداني للانقلاب والتي وثقها كتاب “ثورة شعب” (إصدار الحزب الشيوعي 1965م) توثيقا جيّدا عن طريق : البيانات والعرائض والمذكرات والإضرابات والمواكب والاعتصامات، والصمود الباسل للمعتقلين في السجون والمنافي وأمام المحاكم وفي غرف التعذيب ، والإعدام رميا بالرصاص. تابع الكتاب نضالات العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين والمرأة السودانية ومقاومة الشعب النوبي ضد إغراق حلفا وتدمير ثقافة القومية النوبية وإرثها التاريخي العظيم ، وتنصل الحكومة من الوطن البديل بجنوب الخرطوم. ونضال جبهة أحزاب المعارضة، وحرب الجنوب التي تفاقمت ، ودفاعات المناضلين أمام المحاكم ، كما وضح موقف الحزب الشيوعي من المجلس المركزي وانتخابات المجالس المحلية ، واستمر النضال حتي إعلان الحزب الشيوعي لشعار الإضراب السياسي العام في أغسطس 1961م ، وتواصلت المقاومة حتي انفجار ثورة أكتوبر 1964م ، وإعلان الإضراب السياسي العام والعصيان المدني حتي تمت الإطاحة بديكتاتورية عبود استعادة الديمقراطية التي تمّ اجهاضها بمصادرة الأحزاب التقليدية للنشاط القانوني للحزب الشيوعي وحله مما قاد لأزمة دستورية في البلاد كان من نتائجها انقلاب 25 مايو 1969م.
بعد ذلك قاوم شعب السودان الانقلاب حتي قامت انتفاضة مارس- ابريل 1985م ، وجاءت التجربة الديمقراطية الثالثة التي أجهضتها الجبهة الإسلامية بانقلاب 30 يونيو 1989م ، الذي صادر الحقوق والحريات الديمقراطية وأجهض الحل السلمي لمشكلة الجنوب واتسعت نيران الحرب في المناطق الثلاث حتي تمّ انفصال الجنوب ، وتدهورت الأوضاع المعيشية والإنتاج الصناعي والزراعي والحيواني وتمّ تنفيذ الخصخصة وتحرير السوق حتي أصبحت الحياة لا تطاق ، وتدهورت خدمات التعليم والصحة وأصبحت للقادرين ، وتراجعت قيمة الجنية السوداني وأفلست البنوك ونهبت الرأسمالية الطفيلية ثروات وأصول القطاع العام وعائدات النفط والذهب التي تقدر بمليارات الدولارات وهربتها للخارج، وتمّ التفريط في السيادة الوطنية ، بربط السودان بقوات “الأفريكوم” والمشاركة في حرب اليمن ، ووصفقة تأجير الميناء الجنوبي لبورتسودان ، وقيام قاعدة روسية علي البحر الأحمر ، اضافة لاحتلال حلايب وشلاتين والفشقة . الخ والتفريط في سواكن والتخوف من جعلها قاعدة عسكرية لتركيا ، وبيع الأراضي أو تأجيرها لسنوات طويلة تصل إلي 99 عاما ، والعقود المجحفة للتعدين والتنقيب عن الذهب التي تصل الي 70% لصالح الشركات ، وتهريب الذهب. الخ.
من الجانب الآخرتصاعدت المقاومة الجماهيرية ضد انقلاب الانقاذ حتى اندلاع ثورة ديسمبر 2018م ، ولاطاحة برأس النظام ، وقيام انقلاب اللجنة الأمنية في 11 أبريل 2019م الذي قطع الطريق أمام الثورة ، اضافة لمجزرة القيادة العامة التي كانت انقلابا دمويا علي الثورة تمت التصدى له بموكب 30 يونيو 2019م ، بعدها كان خطأ التفاوض مع اللجنة الأمنية بدلا من مواصلة الثورة حتى اسقاط حكم العسكر ، وتمت التسوية علي أساس الوثيقة الدستورية المعيبة ، وتوقيع اتفاق جويا بهدف اجهاض الثورة ، حتى تم الانقلاب علي الوثيقة الدستورية وحكومة الشراكة في 25 أكتوبر ، الذي ارتكب مجازر فظيعة ضد المواكب السلمية ، وفي مناطق دارفور وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق بهدف نهب الأراضي والموارد ، وإعادة ما تم تفكيكه من تمكين والأموال المنهوبة للفاسدين ، وإعادة نقابات النظام الباد بهدف السيطرة علي الحركة النقابية ، والسير في سياسات النظام البائد الاقتصادية القائمة علي تحرير السوق والمزيد من الضرائب والجبايات ، وتخصيص أكثر من 70% من الميزانية للأمن والدفاع ، وتعذيب المعتقلين في السجون حتى الموت ، والتفريط في السيادة الوطنية كما في صفقة الميناء الإماراتية علي البحر الأحمر، والمزيد من نهب الأراضي.
7. من الجانب الآخر تستمر المقاومة الجماهيرية الباسلة للانقلاب التى استمرت لمدة عام ، ورفض التسوية الجارية التي تعيد إنتاج الأزمة والانقلاب العسكري ، ومواصلة المقاومة حتى اسقاط الانقلاب العسكري ، وقيام الحكم المدني الديمقراطي ، وتحقيق الديمقراطية المستقرة والراسخة التي توقف الحلقة الجهنمية من الانقلابات ، وتفكيك التمكين واستعادة اموال الشعب المنهوبة ، وإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات ، والمحاكمات والمحاسبة لجرائم فض الاعتصام ، وجرائم مابعد انقلاب 25 أكتوبر ، وجرائم انقلاب 30 يونيو 1989م ، والابادة الجماعية في دارفور وبقية المناطق ، وتسليم البشير ومن معه للمحكمة الجنائية الدولية ، وإجازة القانون الديمقراطي للنقابات علي أساس الفئة ، والترتيبات الأمنية لحل الدعم السريع ومليشيات “الكيزان” وجيوش الحركات ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد ، وعودة شركات الجيش والأمن والشرطة والدعم السريع لولاية وزارة المالية والتي تشكل أكثر من 82% من موارد الدولة كما أشار رئيس الوزراء السابق حمدوك ، وإلغاء اتفاق جوبا بعد فشله وتحوله الي منافع ومحاصصات وفساد ، والحل الشامل الذي يخاطب جذور المشاكل وتحسين الأوضاع المعيشية ، ودعم الإنتاج الزراعي والصناعي وتقوية موقف الجنية السوداني ، وتعزيز السيادة الوطنية ، وقيام علاقات خارجية مستقلة ومتوازنة مع كل دول العالم. وقيام المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية للتوافق علي نظام الحكم والدستور الديمقراطي وقانون انتخابات ديمقراطي لضمان انتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية.