15 نوفمبر 1965: الحلو الحزب الشيوعي الجرسة العليهم هسع شنو؟
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(تبدأ من اليوم 15 نوفمبر الذكرى السابعة والخمسين لحل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية في 1965. وتطاولت إجراءات الحل حتى ديسمبر من نفس السنة. فالحل والطرد من الخدمة البرلمانية اقتضى تعديلاً دستورياً رفضته المحكمة العليا برئاسة مولانا صلاح حسن مما ساق إلى استقالة بابكر عوض الله رئيس القضاء احتجاجاً على تبخيس قضائيته.
جاءت هذه الذكرى وحزب المؤتمر الوطني بإسلاميّه وقد جعلوا من حلهم بقرار ثورة حائط مبكى على السياسة والأخلاق والثورة ذاتها. واستعلوا عليه استعلاء لا يطرف جفن لمعتادي حل الأحزاب هؤلاء بأخس السبل. يصعرون خدهم لقرار ثوري بحلهم ذاع على الملأ بثمن فادح. لم يقع حلهم خلسة ليلاً بانقلاب كما فعلوا بالمؤسسة الحزبية كلها في يونيو 1989. ولم يقع ب”خرمجة” للدستور لحل الحزب الشيوعي مما يعرف بتغيير خشبة القون خلال اللعب.
وأعود هنا بهذه الذكرى لشباب الثورة الذين لمست منهم لا اعتزالاً للأحزاب بل هجائها. وأقول لهم إن هذه الأحزاب، أعجبتكم أم لم تعجبكم، ممن سهرت أجيال منا على أن توجد والديكتاتوريات المتناسلة قد كشرت أنيابها لها. بل وكشرت بوجهها نظم مدنية في حال بعضها. وأرادت كلها محوها من الوجود ليكون فينا حزب غالب: اتحاد اشتراكي أو مؤتمر وطني. كان سهرنا ً مكلفاً متمسكين بحق التنظيم والتعبير وهو ريحانة الديمقراطية التي خرج نفس الشباب بفدائية مثالية لتكون نظاماً للحكم فينا. ليس مطلوباً من أي من الشباب أن يكون في أي حزب بيننا. ولكن وددت أن يروا، حتى فيما اتفق لهم من خطايا الأحزاب، بصمة الطغيان الذي قعد لها كل مقعد عليها. ولا أقول هذا مرسلاً. لقد عشت في تحت أرض الحزب الشيوعي من 1973 إلى 1978 نستخلصه من براثن نميري بعد مجازفة الحزب نفسه بانقلاب 1971. وأعرف لذلك عن كثب مصاعب العمل في “جو سياسي حار”.
وأريد للشباب أن يطلعوا على فيديو ظهر منذ أسابيع تحدث فيه سليمان حامد، مسؤول الحزب الشيوعي التنظيمي في 1971، عن هول اليوم العاقب للانقلاب وعزائم الحزب أن يسترد نفسه ويبقى. وستغيب عن الشباب جريمة “حل الحزب” في سياق الديكتاتورية العسكرية إذا لم يثمنوا نضال الأحزاب لتبقى ولو كالصبار في الخلاء العطيش من فرط غريزة البقاء.
أما الإسلاميون الحالون للأحزاب ومدمنو حلها فليفسحوا للخجل، ولو مزعة منه، طريقاً إلى وجوههم. كفوا عن اللجاج عن حلكم لأنكم لم تحسنوا سوى حل غيركم.
(كتبت هذه الكلمة في نوفمبر 2014 أعيب على جريدة الميدان غفلتها عن ذكرى حل حزبها. وأعيد نشرها بنصها لا أدري إن توقفت الميدان عند الذكرى في يومنا. فإن فعلت فلتعتبر مقالي هذا من الأرشيف لا محالة).
إذا صدقت جريدة الميدان، صحيفة الحزب الشيوعي، غير الورقية فإنه لم يقع بتاتاً قبل 48 عاماً حل لحزبها وطرد لنوابه من برلمان متوحش. مرت ذكرى ذلك الحدث المفصلي في يوم 15 نوفمبر الماضي ولا حياة لمن تنادى. لم تعر الميدان الواقعة انتباهاً في أعدادها منذ مطلع الشهر حتى تاريخه برغم أن جريدتنا، الخرطوم، نبهت لذلك في تحقيق مبادر بقلم عثمان أحمد. بل والتمست الرأي في الواقعة من صديق يوسف من قيادة الحزب الشيوعي.
ولا يحتاج المرء لغير تحقيق الخرطوم ليقع له وجوب تذكر الميدان لذلك اليوم الشقي الذي أطاش بأكثر صواب الحزب إلى يومنا هذا. فمن جهة تجد رأي صديق يوسف في الحدث بعد نحو ربع قرن لم يبرح محطة استنكاره كأنه وقع أمس أو أول أمس. فهو عنده مؤامرة لم يتحر أحد حقائقها ولم يحاكم مرتكبها. بل اتهم الحكومة بمساعدة مرتكبها (طالب معهد المعلمين شوقي محمد علي الذي جاء بحديث الإفك بحق أم المؤمنين عائشة في ندوة بالمعهد) بالخروج من السودان ليكمل تعليمه في الخارج ويستقر فيه. وواضح أنه حتى الشيوعيين لم يتحروا دقائق الحادثة ومصائر مرتكبها مثلهم مثل من يتهمونهم بالجريرة. فقد نشر عمار محمد آدم وماهر الجوخ في 2006 تحقيقاً مع شوقي الذي كانت عبارته في الندوة بدء الإشارة لحل الحزب الشيوعي. وما جاء عن شوقي يكذب قول صديق كله. فقال إنه سجن بعد الندوة لمدة 6 أشهر ذهب بعدها للأبيض وجبال النوبة ليخدم حزبه: الحزب الشيوعي، القيادة الثورية. وهو جناح انقسم على الحزب الشيوعي في 1963 بقيادة الرفاق أحمد شامي ويوسف عبد المجيد لعقيدتهم في وجوب الكفاح المسلح ضد نظام 17 نوفمبر بديلاً عن العمل الجماهيري للحزب الأصل. وانقسم شوقي معهم ولم يكن عضواً بالحزب الشيوعي حين تحدث في ندوة معهد المعلمين. وكان ذلك معروفاً. ولكن غرض خصوم الحزب الشيوعي مرض. وسخر شوقي في المقابلة من تخرصات الشيوعيين عن النفع الذي عاد له من كلمته التي أدت إلى حلهم. فقال إنه كان يلتحف الغبراء في رديف الأبيض حين سمع في الإذاعة من قال إنه في شيكاغو. وأطرف من هذه إنه كان يحضر في الديمقراطية الثانية ندوة بكلية التربية جامعة الخرطوم (معهد المعلمين سابقا) وفي نفس الميدان فسمع الرفيق عز الدين على عامر يقول إن شوقي كان آنذاك في شيكاغو يتأبط فتاة هيفاء شقراء. وقال إنه استعد للرد على عزالدين ولكن أصحابه قبضوا عليه بأربعاتهم وقالوا له: ” تاني عاوز تجيب ضقلها يكركب”. وهكذا لم يتحرك الحزب الشيوعي في فهمه لواقعة حله بعد نصف قرن إذا كان رأي صديق في الاحتجاج عليه هو كل ما عندهم
أما أسطع الدلائل على وجوب اعتناء الميدان بذكرى حل حزبها فهو حديث الدكتور عالم السياسة صلاح الدومة لجريدة الخرطوم عن حل الشيوعي. فهو ما يزال، وهو عالم السياسة بنظراته الناقدة لاستبداد نظام الإنقاذ، يعتقد أن قرار الحل لم يجانب الصواب. فقد جلب الشيوعيون في قوله الحل لأنفسهم لسخريتهم من المتدينين حتى من كان يقوم بتأدية صلواته وزكواته. ومع قوله بعدم دستورية الحل إلا أن الحكومة كانت مرغمة لخرق الدستور حتى لا تصطدم بالشارع المعبأ سياسياً ووجدانياً ضد الشيوعيين.
كنت اعتقدت أن علم السياسة عندنا وممارستها قد تجاوزا مثل قول الدومة. فكثير من السياسيين ممن كانوا طرفاً في الواقعة صرحوا بأنهم لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا لما حلوا الحزب. وربما كان مجرد قول. ولكن تزداد أهمية أن يوالي الشيوعيون مسألة حلهم لأن الرواية الغالبة عنه ما تزال هي رواية خصومهم القائلة بأنهم حلوا الحزب الشيوعي بناء “على ما يطلبه المستمعون”. ولم يمتنع عالم في مقام الدومة من إعادتها علينا بعد 48 عاماً بحذافيرها. والميدان غائبة عن التاريخ طوعاً واختيارا.