قراءة في كتاب د. النُّور حَمَد: “العقل الرَّعَوي: في استعصاء الإمساك بأسباب التَّقدُم” (1 / 2)

0 119
العقل الرعوي: كيف نشأ وتغلل في المجتمع، عبر الحقب التاريخية، ليقضي على “أصايل الطباع” التي ورثناها من إرثنا الكُوشي الذي سَفَته رياح الغزوات الرعوية؛ وكيف قاد هذا الأمر الى تحجيم مقدرة الإنسان السوداني في مواصلة مسيرته الحضارية التي انقطعت بسقوط ممالكه القديمة: كُوش ونوباتيا ومروي وسوبا.
بقلم: بَلّة البكري (*)
.
مدخل
أهداني أستاذنا، الدكتور النُّور حمد، مشكورا، نسخة من كتابه الذي صدر مؤخرا عن دار المصورات في السودان بعنوان: “العقل الرّعوي – في استعصاء الإمساك بأسباب التقدم”. وقد كنت حريصا على الحصول على الكتاب الذي ترقبت صدوره بعد نشر تلك المقالات الأصل، لذات الكاتب، في صحيفة التيار، عام 2016م، تحت عنوان “التغيير وقيد العقل الرعوي” والتي جاءت منها، كما قال المؤلف، فكرة الكتاب. وقد علمتُ أنّ المقالات قد أثارت غير قليل من الحراك في الوسائط الثقافية والإعلامية في السودان. وعلى الرغم من أني لم أكمل قراءتها كلها وقتذاك، إلا أني كنت، كغيري ربما، أتمنى صدور الكتاب الذي يختصر الطريق بتقديم المادة كلها، مكتملة، في مكان واحد. وقد تحقق هذا الأمر بصدور الكتاب الذي نحن بصدده. في هذا المقال أدعو القارئ لصحبتي في تجوال قصير بين صفحات الكتاب التي قاربت المائتين وإثني عشر صفحة لنقف على ما جاء فيه ونتجول معا في رياض فصوله الست ونتأمل في رسالته.
تَوْطِئة
يبدأ الكاتب بمقدمة، طويلة نسبيا، أراد لها المؤلف أن تشكِّل “توطئة” كما أسماها أو حجر الزاوية لموضوع الكتاب. خاصة وقد استنكر البعض، إبان نشر مقالاته الصحفية التي سبقت الكتاب بسنوات، نسبة العقل الى حرفة كحرفة الرعي أو الى نمط العيش كالبداوة أو الى حقبة تاريخية في حياة أيّ مجموعة بشرية. في هذا الصدد أبان الكاتب، بشواهد مرجعية عديدة، معلّلا التسمية بل والمفهوم من ورائها؛ فقد جاء في صفحة 12 من الكتاب قوله:
“……. وقلت، للذين قالوا ليس من الصحيح نسبة العقل إلى جهةٍ ما، أو كيان ما، أو حقبة تاريخية ما، أو نمط عيش….. أن نسبة العقل إلى جهة ما، أمرٌ ورد، وبكثرة، في الأدبيات المكتوبة. واستشهدت ببعض ما كتبه محمد عابد الجابري. ومن ذلك مؤلفاته التي أسماها: (“تكوين العقل العربي”، و”بنية العقل العربي”، و”العقل السياسي العربي”، و”العقل الأخلاقي العربي”). وقلت إن العقل يأخذ سماته من بيئته، ومن تاريخه وإرثه الحضاري، ومن نظرته إلى الكون والحياة، ومن سمات الحقب التاريخية التي يمر بها” انتهى.
كما أشار الكاتب الى مراجع أخرى، مثل كتاب جمال عبد الرحيم بعنوان “فتح العقل المسلم”. وأورد، أيضا، عدّة مراجع من خارج الفضاء الثقافي العربي في إشارة الى أن الأمر ليس بدعة أو حطّا من قدر مجموعة بشرية ما؛ فذكر، على سبيل المثال، ما كتبه والتر هفتون عن العصر الفيكتوري، في كتابه بعنوان “إطار العقل الفيكتوري؛ والى كتاب بيتر روبرت إدوين، بعنوان: “جذور العقل النازي” وكتاب روبرت أريلي بعنوان “إغلاق العقل المسلم: كيف خلق الانتحار الفكري،” أزمة الإسلامويين المعاصرين”؛ والى ما كتبه ريموند أقارد بعنوان: “العقل الإغريقي”، وكتاب رفائيل باتاي بعنوان: “عقل العرب”. إذنْ، فموضوع التسمية ك”مصطلح” ليس بدعة أتى بها الكاتب. فهو مصطلح يمكن أن يُفهم في سياقه الأكاديمي التوصيفي لظواهر مجتمعية سلوكية بعينها وعادات ومعتقدات تشكل نمط حياة مجموعات بشرية وتؤثر على تعاطيها مع مفاهيم ومعتقدات عصرها من حولها، وخاصة فيما تعلق بالعمل والمهن والعيش في الحضر ومستلزماته الضاغطة والذي يختلف كثيرا عن حياة البادية. والناظر الى بعض شعوب العالم بمنظار أوسع من محيطنا المباشر يرى بوضوح كيف ساقها عقلها الجمعي، إن شئت، الى مراقي التطور ودفع بها أسرع من غيرها في سلم النماء والتمدن، رغم الصعاب ودمار الحروب وندرة الموارد في فضاءات بعضها التي تعيش فيها. ولعلّ الشعب الياباني مثالٌ صارخ في هذا الصدد في قارة آسيا والشعب الألماني في أوربا الغربية. أما الصين فقد نهضت، هي الأخرى، كماردٍ جبار، صحا من غفوة فرضتها ظروف تاريخية بعينها ولكن كان للشعب الصيني ما يكفي من زاد تاريخي – حضاري – متجذر لعب دورا رئيسا في نهضة المارد.
خصائص العقل الرعوي
يواصل المؤلف في استقراء تاريخي، في التوطئة، الحديث، عن خصائص “العقل الرعوي” وخصائص البادية عموما والبيئة الصحراوية العربية الرعوية الشاسعة التي نشأ فيها هذا العقل عبر السنين بل ونضجت فيها، أو بسببها، منظومة القيم التي تحكمه. فهذه البيئة، كما يقول الكاتب تمتد من جبال شرقي إيران الى مشارف المحيط الأطلسي في شمال غرب القارة الأفريقية. وتحدث عن البداوة ونظرتها الدّونية للصنايع، بل واستحقارها للمهن، بصفة عامة، بما فيها الزراعة، والتي هي في مخيلة البدوي من الأعمال الوضيعة التي لا تناسب إلّا من هم من الطبقات الدنيا في المجتمع. وقد أورد الكاتب (ص 20) بيتين من الشعر الشعبي السوداني لهما من الدلالة ما يكفي في هذا الصدد. يقول شاعر شعبي سوداني، “هنباتي” فيما يبدو:
الجِّنْيَاتْ البِّتغْنَى وُصِّنْعَتَا المارُوقْ
ما ربطوا البِّلاوِّي للِّنُّهوض والسُّوْق
في البيتين،أعلاه، يهجو الشاعر الناس الذين يزرعون؛ فيقول إن هؤلاء الذين يحققون الغِنى بصنعة “المارُوق” وهو سمادٌ مصنوع من روث البهائم، (يعني الذين يشتغلون بالزراعة بصفة عامة)، لم يرتفعوا إلى مستوى لجم وربط فحل الإبل في دُورهم؛ وهو فحلٌ جامح، صعب المراس، يحاول الفكاك من قيده، للنهوض وسلب ونهب الإبل (السُّوق). فهم في مخيلته أقل قدرا وأقلّ كفاءة لمواجهة الشدائد ولا يبدو أنّ لهم ما يكفي من شجاعة وصرامة للنهب و”سَوْق الإبل”. فهذه مجتمعات ذات ثقافة وعقل جمعي يهجو العمل اليدوي (زراعةً كان أم حرفة) ويحتقره، لكنه، في ذات الوقت، يمجد النهب وسَوْق الإبل عنوة وسرقتها” والبلاء فيه لما فيه من شجاعة وصرامة. فقد قال شاعرهم في موضع آخر:
سُوْق أَلْبٍل (الإبل) بدٌور لُهْ صَرامَة
فُوقُه المُوت وفُوقُه الأعضاء جارّة أحكامها
ويعني أن مهنة سرقة الإبل (السُّوْق/الهنبتة) ليست بالأمر الهين بل تحتاج الى الصرامة والشجاعة والمقدرة على الشدائد، لأن فيها خطر الموت وإن نجوت منه ففيها أحكام الأعضاء (من سجن وحبس). وقال آخر في مجتمع رعوي رفضوا طلبه الزواج من ابنة عمه، متوعدا أهلها ومهددا: “والله، وحَاتْ سِيدي،فلانة دي كان ما عرَّستُوها لي إلّا نمشي المدينة نبقالكو جَكَّاكِي ونجيبلكو الفضيحة”! فالمهنة والصنعة، “جكّاكي ” وتعني “ترزي”، هي ما يجلب العار للقبيلة كلها في مخيلة هذا الرجل وقبيله،لدرجة أنه هَدّد أهله بالمصير المشين (العار وإشانة سمعتهم) الذي ينتظرهم إن لم يستجيبوا لطلبه. فهل هذه العقلية الرعوية أصيلة في ديارنا السودانية أم أنها مصنوعة ودخيلة على ثقافة حضرية قديمة. يقول الكاتب في التوطئة (ص 7):
“اجتاحت الثقافة البدوية، الرعوية، الوافدة، ثقافة حضرية قديمة، مستقرة، عمرها أكثر من 5 آلاف عام، ويزيد، فطغت عليها. في تلك الحقبة التاريخية الطويلة المتصلة، التي سبقت توافد البدو بأعداد كبيرة إلى سهول السودان، بحثا عن الكلأ والماء، مارس إنسان وادي النيل في السودان، الزراعة والاستقرار. كما بنى عبرها حضارة زراعية صناعية، وثقتها، بصورة جيدة، كتب التاريخ القديمة والحديثة. كما شيّد انسان هذه المنطقة صروحا معمارية ضخمة، لازالت شواهدها الأثرية، الدالة على عظمتها، وعلى المعرفة المنضوية فيها، قائمة إلى يومنا هذا. خلاصة القول، إن هذه العلة المُقعدة، علة طارئة، لا يتعدى عمرها أكثر من 700 عام. وهي علة ضربت التكوين النفسي الحضري القديم، الذي ترسخ في ذات الفرد السوداني عبر آلاف السنين، وأبدلته بمزاج جديد، أعاد ما تحقق من الولاء للدولة، في حضارة عمرها ما يقارب السبعة آلاف عام، إلى الولاء الأعمى للتكوينات الأولية؛ الأسرة، العشيرة، القبيلة، وفي حالة أفضل قليلا؛ الولاء للطائفة”، انتهى.
يواصل الكاتب الحديث بإسهاب، عن تأثير الجغرافيا والموروث الحيواني في القيم المجتمعية بصفة عامة. لزم القول هنا أن البعض ربما وجد مبررا نقديا في القول إن الحديث عن “عقل رعوي جمعي واحد” لأمة كاملة، كالأُمّة السودانية المتنوعة الأعراق والثقافات فيه بعض تعميم. فالأُمّة السودانية، كما هو معلوم تتألف من عدّة شعوب لبعضها أعراق ولغات، بل وحضارات من أقاصي دار فور في الغرب الى دار البجا وكل شعوب بني عامر والبشاريين والهدندوة في الشرق ومن شمال الوادي في ديار المَحَس والسَّكوت والنوبة والحلفاويين والدناقلة، مهد الحضارات القديمة، مرورا بالوسط والجنوب. بيد أن هذه التوطئة، التي امتدت الى أكثر من عشرين صفحة في الكتاب، بها من التفصيل ما يجعلها صالحة، فيما نرى، لأن تكون هي الفصل الأول من الكتاب في طبعة لاحقة، ربما.
فصول الكتاب
يقع الكتاب في ستة فصول. يتناول الفصل الأوّل اعتلال الدولة الوطنية السودانية. في الفصل الثاني، يتحدث الكاتب عن بنية العقل الجاهلي، ثمّ يتناول مفهوم التقدُّم في الفصل الثالث. أما الفصل الرابع فيتحدث فيه الكاتب عن مملكة كُوش وإخراجها من العتمة التاريخية التي اكتنفتها عبر العصور. ينتقل الكاتب بعدها للحديث عن “اتفاقية البقط” الشهيرة في الفصل الخامس من الكتاب؛ ثُمّ يختمه بالفصل السادس الذي يتحدث فيه، بإسهاب، عن ظواهر حيّة معاشه في حياة السودانيين اسماها “شواهد العقل الرعوي في حياتنا”. في الجزء الثاني من هذا المقال سنلقي مزيدا من الضوء على ما جاء في كل فصل من هذه الفصول الستة. بالنظر لموضوعات فصول الكتاب الستّة نرى أن بينها رابط واحد، هو العقل الرعوي، وكيف نشأ وتغلل في المجتمع السوداني، عبر الحقب التاريخية، ليقضي على “أصايل الطباع” التي ورثها الإنسان السوداني، من إرثه الكُوشي الذي سَفَته رياح الغزوات الرعوية عبر هذه الحقب. وكيف قاد هذا العقل الرعوي الدَّخِيل، إن شئت، الى تحجيم مقدرة الإنسان السوداني في مواصلة مسيرته الحضارية التي انقطعت بسقوط ممالكه القديمة: كُوش ونوباتيا ومروي وسوبا. هذا طرحٌ شيّق، ومطلوب في وقتنا الحاضر، فيما نرى، يغوص بنا في تاريخنا السوداني، كأُمّة، منذ الأزل، ويبحث في أسباب تردينا، حديثا، في الإمساك بأسباب التقدم المدني، وكل ماله من صلة بيتمنا “الحضاري” الذي كثرت شواهدُه.
babakry@gmail.com
نواصل
*الكاتب مهندس مدني (CEng FICE, FCIArb, FAPM, FAE)، وكاتب مستقل في الشأن السوداني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.