هيئـات المحـكمين في العـمل  التشـكيلى.. بين الاحتـياج التــاريخى وبين الأســـطورة والخـرافـــة

لقد سقطت سلطة رينولدز قبل أكثرمن مائة وخمسين عاماً . . فماذا بعد؟؟!

0 139

كتب: أ. صلاح حسن عبد الله 

.

مع ثورة ديسمبر 2018 شهدت الحركة التشكيلية صعوداً سريعاً الى واجهة الحياة الاجتماعية. ورغماً عن حالات الصعود والهبوط على مستوى الحدث السياسي، إلا أنَّه لا يخفى إمساك الحركة التشكيلية بزمام أمرها ومواصلتها لصعودها باشكال مختلفة، متمثلاً ذلك في العروض المكثفة والسمنارات والمنتديات ومحتلف الأنشطة النظرية التي تتلمس طريقها رغماّ عن الظرف المعاكس ورغماً عن العقبات المتوقعة على الطريق.

هذا الصعود الذي تشهده الحركة التشكيليىة هو صعود يولد بالضرورة أسئلة من نوع جديد. وهي اسئلة لا تتولد من فراغ بل تتكون بشكل موضوعي ضمن ما تتنكبه الحركة التشكيلية أثناء أدائها اليومي.

يأتي في مقدمة هذه الأسئلة السؤال عن منظمي العرض (curators)، وإلى أي حد يمكن انْ يكون دورهم ايجابياً او سلبياً في دفع مسار الحركة التشكيلية. صحيح أنَّ مهنة ال(curators) قد ظهرت في السودان منذ عدة سنوات، إلا أنَّ ظهورها قد كان خافتاً ومغموراً؛ داخل المساحة المغلقة التي كانت تشغلها الحركة التشكيلية. إلا أنَّه، وبعد ديسمبر، تبدل الحال. فقد تمددت الحركة التشكيلية، واعلنت عن نفسها صراحة على كل الملأ والشهود. وتمددت بالتالي مهنة ومهام ال(curator)، واصبح له دوراً مشهوداً؛ لا تخطئه العين على ساحة التشكيل. لقد مضى زمن كانت مهام العرض التشكيلي تقع بكاملها على عاتق العارضين انفسهم، بطريقة «ماحك جلدك مثل ظفرك»، ولا عزاء لهم في ذلك.

ومع ظهور ال(curator) على هذا النحو من الثقل، ينطرح السؤال: لمن الحق في تحديد ما يعرض وما لا يعرض؟ هل هذا الحق هو للفنان نفسه أم لمنظم المعرض؟

ومع أسئلة من هذا النوع فليس من الحصافة في شيء أنْ تبتسرالاجابة قبل النظر في موضوع السؤال نفسه بما يكفي. فمنذ نشأة حركة الحداثة، في غرب أوروبا، ظل هذا السؤال هو سؤالاً معلقاً بين قطبى الرحى.

في العام 2003 سبق أنْ واجهت اللجنة التنفيذية للاتحاد العام للفنانين التشكيليين اشكالية شبيهة بذلك، عندما طلبت هيئة بينالى الشارقة من الاتحاد ترشيح خمسة عشر تشكيلياً للمساهمة في البينالى. وقد صاغت اللجنة التنفيذية يومها بعضاً من الأسس للمشاركة، كاستبعاد أعضاء اللجنة التنفيذية أولاً مثلاً، ثم ترشيح أسماء من فترات عمرية متباينة، وما شابه من أسس تمكنت اللجنة من صياغتها. وبعد إرسال نماذج من أعمال الراغبين في المشاركة إلى الشارقة، قامت هيئة البينالى بإرجاع بعض الأعمال دون توضيح للأسباب الكافية في ذلك. وبالطبع فإنَّ ذلك لم يكن مرضياً لمن أرجعت أعمالهم. وقد قدمت اللجنة  التنفيذية دفاعها عن موقفها بأنَّه لا سلطـة لها على هيئة البينالى. وذلك هو توضيح معقول جداً. ولكن السؤال التالى الذي إنطرح كان هو (إذاً فما هو دور الاتحاد في حماية عضويته وحماية حقهم في العرض؟). لقد طرح السؤال يومها بحدة ولكن بلا أفق يلامس ما هو جوهرى ومبدئى فيه بعيداً عن الترضيات والتسويات، حتى يتاح لكل التشكيليين  بلورة  رأى عام حول مدى إمكانية تلبيتهم للدعوات التي قد تصلهم مستقبلاً وكيفية المشاركة فيها بدلاً عن اللهث خلف شروط العرض التي لا يكونون عادة طرفاً في صياغتها. والمسألة على هذا النحو من الحدة لم تكن في أى يوم من الأيام ضمن أجندة المناقشة وسط التشكيليين. ولكنها تطرح نفسها الآن. ولا شك أنها ستطرح مرات ومرات أخرى، خاصة مع النشاط الواسع الذي تشهده الساحة التشكيلية اليوم مقترناً مع مهنة ال(curators) التي اخذت تأخذ لنفسها مساحة اوسع اليوم على جسم الحركة التشكيلية.

فالى اي حد سيتكمن التشكيليون وشركاؤهم الجدد من ال(curators) من بلورة رأى عام يلتف حوله الجميع ولمصلحة  الجميع، خاصة وأنَّ تاريخ الحركة التشكيلية لم يخلو من هذا النوع من المنازعات بأشكال وبمستويات مختلفة، على نحو ما حدث في العام 1976مع معرض إثنين من التشكيليين هما بابكر كنديو وعلى الورَّاق، والذي كان من المفترض أنْ يقام بمعهد جوته. ولكن توصيف الأعمال المطلوبة للعرض من قبل السيد مدير المعهد حال دون ذلك على نحو ما أوضحه العارضان نفسيهما:- «وحين أكملت لوحاتنا أيامها المعدودات في كنفه، ذهبنا إليه نسأله إنْ كانت لوحاتنا قد نقرت فيه شيئاً. فإذا به يخبرنا أولاً أنَّ برنامج المعهد (مزدحم) وأنَّه لن تتيسر لنا الفرصة إلا بعد ثلاثة أشهر . . ثم يحاول أن يكون أكثر وضوحاً «إنَّ لوحاتكم غير مثيرة» أى وبتفسير آخر أبعد عمقاً وأغنى -كما فهمنا- لا تلمس تلك المنطقة الكهرومغنطيسية والتي هي بين الصلب والترائب والتي تجعل المشاهد يأكل أطراف اللوحة من فرط الإنسجام وأن يصرخ متلذذاً رافعاً جلبابه ويجرى في شارع المك نمر صعوداً وهبوطـاً حتى يقع متوفياً . . . وقد تسمَّم كل دمه بالذرات اللونية المفرطـة (الإشارة) والتي تخاطب كل ما هو مريب وحاد فيه! . . !) . ويقول الأخوة بابكر كنديو وعلى الورَّاق عن مدير المعهد:-(هو مدير المعهد له حق أنْ يؤجره مفروشاً. وهو صاحب الزبدة له حق أنْ يشويها أو يفصلها «قميصاً».. ولكن حق لنا أنْ نتساءل إلى إى مرعى يريد السيد راعى المعهد أنْ يقود قطيع التشكيل. وماذا يريد بتدخله المتعسف والعنيف على المسألة التشكيلية أنْ يفعل بثقافة أهل السودان ؟؟ وماذا يريد بالحركة التشكيلية التي لا يعرف عنها سوى إسمين ينطقهما بصعوبة، وبعض التذكارات الفولكلورية؟ ؟ ؟ هل يا ترى يريدنا أنْ نلون الحصى كما تفعل العزيزة إبنة أخيه والتي يعتز بأعمالها ويزين بها مكتبه؟ ؟ ؟ لقد نبهنا الى أنَّ السودان به ثروة هائلة من الحصى والحجارة والشوك وتساءل لماذا لا نلون كل هذه المروج الترابية كما تفعل العزيزة إبنة أخيه؟ ونحن لايهمنا كثيراً إذا قد قرر هو وعائلته تحمل عبء تلوين أرض السودان «البنية» الجافة بألوان الزيت. فنحن نعتبر أنفسنا شباب التشكيل الذي تجاوز هذه السذاجات «الترابية» ونعرف أنَّ إسهامنا في التشكيل ليس ضرورياً أن نشلَّخه لكى يصبح سودانياً ليثير السيد المدير وآخرين.)1

كما أنَّ الإشكال نفسه تكرر مرة أخرى وبمستوى آخر بين الكريستاليين وبين الأستاذ تاج السر أحمد رئيس قسم الفنون التشكيلية بمصلحة الثقافة خلال العام 1976. فعندما أقام الكريستاليون واحداً من معارضهم (معرض المرايا العادية – والذي كان بالضبط مجموعة من المرايا العادية جداً) يومها طلب الكريستاليون من الأستاذ تاج السر أنْ تقوم مصلحة الثقافة  بشراء واحد من أعمال المعرض حسب التقليد الذي تبنته مصلحة الثقافة يومها بأنْ تقوم بإقتناء عمل واحد من كل معرض، وذلك لتحقيق هدفين، الأول هو تأكيد نوع من المساهمة مع العارضين في تغطية نفقات العرض. والسبب الثانى هو تكوين نواة لمتحف التشكيل الحديث في السودان. ولكن الأستاذ تاج السر رفض رفضاً باتاً أن يستقبل أى عمل من أعمال الكريستاليين وأعلن بأنهَّ (لن تقوم للكريستاليين قائمة) إلا على جثته2. وقد بنى الأسـتاذ تاج السر حجته بأنًّ هنالك «أشياء معروفة» وأنَّ تقييمها يمكن أنْ يتم «بسهولة» و»أنًّها لا تحتاج إلى تفكير3. بينما أسس الكرستاليون منطقهم باعتبار أنًّ هذه الأشياء التي يعتقد الأستاذ تاج السر أنَّها معروفة هي بالضبط موضوع المناقشة وأنَّ «مسألة الهارمونى والكونتراست والسيمترية لم تحسم بعد في مجال التشكيل4. وبالطبع فإنً الطرفين لم يتوصلا إلى أى إتفاق رغم الأجاويد والوساطـة المقدرة من قبل الدكتور محمد عبدالحى مدير عام مصلحة الثقافة في تلك الفترة.

نموذج آخر لإشكاليات هيئات المحكمين هو الوجود التاريخى للمحكمين كأساتذة داخل كلية الفنون، والذين يفترض فيهم وبحكم وظيفتهم التربوية، أنْ تقبل أحكامهم بفعل إيمان. ولكنا نجد انًّ أحكامهم كثيراً ما كانت تقابل بالرفض الحاد والعنيف جداً أحياناً من قبل الطـلاب. وقد شهدنا أولى حالات الرفض هذه في نهاية العام الدراسى 73 / 1974. حيث قامت إدارة الكلية بفصل ثلاثة من الطـلاب «علاء الدين الجزولي، هاشم محمد صالح وحامد على أبو القاسم»، وحكمت بالرسوب على عدد كبير آخر. وفي العام 1986 كانت إدارة كلية الفنون قد نشرت إعلاناً تعلن فيه عن حاجتها لتعيين معيد بقسم التلوين بالكلية على أنْ يكون حائزاً على درجة الماجستير في التلوين. وقد صادف أنَّ التشكيلى الوحيد الذي كان يحمل هذا المؤهل الأكاديمى في ذلك الوقت كان هو علاء الدين الجزولي الذي حصل عليه من جامعة موسكو بعد حوالى إثنى عشر عاماً من فصله عام 1974 ضمن الحملة الجائرة من قبل المحكمين المتحكمين في منح الدرجات الأكاديمية لطـلاب كلية الفنون. وعندما تقدم علاء الدين لملء هذه الوظيفة لم يقبل الطلب، ولم يرفض في نفس الوقت. وبقى الطلب معلقاً حتى تاريخ رحيل علاء الدين في 2020. فكأنَّ خطـأ المحكمين قبل إثني عشرعاماً لم يكن من الممكن النظر إليه إلا من خلال خطـأ آخر هو معاقبة علاء الدين للمرة الثانية بعدم قبوله كمعيد بالكلية، لا لسبب إلا لانَّ هيئة التحكيم قد أخطـأت  في المرة الأولى.

وِظل هذا النوع من الشد والجذب بين طـلاب وأدارة كلية الفنون الجميلة يطبع علاقة الطرفين على مدى عدة سنوات لاحقة. بل وربما يؤدي أحياناً إلى فصل اي من الأساتذة، إمَّا لوقوفه ضد التحكيم الخاطـىء والمجحف من قبل الأساتذة المحكمين مما يعرض الأستاذ نفسه لعقوبة الفصل من الكلية فضلاً عن فصل الطـلاب المعنيين، وإما لإمتثاله لروح هيئات التحكيم التي تحكم بلا وجه حق على نحو يكون الدفاع معه عن التحكيم نفسه مستحيلاً.

إنَّ إشكالية التحكيم والمحكمين في العمل التشكيلى هي إشكالية تاريخية بدأت أصلاً مع نشوء حركة الحداثة في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر. وعلى نحو ما يورده الأستاذ ألآن باونيس «. . في ربيع 1863 قدم رسام شاب يدعى إدوارد مانيه صورة إلى محكمى الصالون بباريس فرفضت كما رفضت مئات الصور غيرها. رفع الفنانون الناقمون المرفوضون إلتماساً إلى الإمبراطور نابوليون الثالث، الذي رجح أن يكون هنالك شيئاً من الإجحاف في قرارات المحكمين. وسمح بتنظيم معرض خاص بالرسوم والمنحوتات المرفوضة أطلق عليه – صالون المرفوضات – الذي كان نقطـة تحول في تاريخ الفن الحديث. وتحدد بفضله أنسب موعد لبدء تاريخ الفن الحديث»5.

ويستطرد الأستاذ ألآن (بعد صالون المرفوضات تغير الوضع تماماً. شرع الفنانون يتهيأون لتنظيم معارضهم الخاصة كما فعل الإنطباعيون في عام 1874 على سبيل المثال)6

وألآن باونيس لا يتردد في أنْ يصف صالون المرفوضات ويسميه بإسم «نذير الإسقلالية المتنامية للفنانين». ويوضح في ذلك أنَّ الفنانين والنحاتين دأبوا «حيناً طويلاً من الدهر على العمل لحساب حماتهم: الممثلين بالملوك وأمراء الكنيسة والأرستقراطيين والتجار الأثرياء. ولم يبادروا إلى المطـالبة بنوع من الحرية التي صارت حقاً مشروعاً للفنان المعاصر. لكن الفنانين ذوى النزعة الإستقلالية تمردوا على القيود التي فرضتها هذه الحماية عليهم. وبدأت الحالة تتغير تدريجياً. في البدء كان الفنانون على إستعداد للقبول بأحكام الفنانين زملائهم في المهنة. وقد عد القرن الثامن عشر عصراً  ذهبياً للأكاديميين حين كانت سلطـة رجال مثل جوشوا رينولدز معترفاً بها من قبل الفنان والجمهور. لكن احتكام الفنانين إلى فنانين نظراء لهم لم يعد محتملاً. وكان سبباً من أسباب الإنتفاضة التي شهدتها باريس عام 1863»7. لقد سقطت سلطـة رينولدز قبل اكثر من مائة وخمسين عامأ ، ولم يولد بعده رينولدز آخر بدلاً عنه . فماذا بعد ؟ . . ؟

لقد كانت واحدة من الصحف السودانية «جريدة الحرية» أكثر جرأةً في طريقة إختيارها لشعارها، عندما أقصت كافة المحكمين التقليديين المعروفين من حملة الشهادات وذوى الخبرة، وإستعاضت عنهم بمحكمين ممن يطلق عليهم عادة في أدبيات النقد التشكيلى الدارج صفة «رجل الشارع العادى» كأناس غير متخصصين في مجال العمل التشكيلى. وكانت النتيجة هي شعار الجريدة في شكله الذي صدرت به. ولا شك أنَّ مثل هذا النوع من التحكيم يفتح باباً طـالما ظل مغلقاً زمناً طويلاً من قبل كهنة العمل التشكيلى.

ربما يقول العقلاء أنَّ وجود المعايير الموضوعية في العمل التشكيلى قد أصبح من المسائل المفروغ منها. وقد كان عبدالله بولا هو أكثر الناس حديثاً عن موضوعية المعيار في العمل التشكيلى. ومع إتفاقنا الكامل مع عبدالله بولا في ما ورد منه في هذا الخصوص ضمن  سلسلة مقالات بداية  مشهد مصرع الإنسان الممتاز، ولكن عبدالله بولا نفسه لم يتحول بعد إلى رينولدز جديد. وأطروحاته مازالت عرضة لمواجهتها بأطروحات مقابلة من نوع أطروحات الكريستاليين على سبيل المثال والتي تطرح كل شىء وأى شىء للمناقشة تماماً كأطروحات عبدالله بولا نفسه والتي طرحت كل تاريخ حركة الحداثة وتاريخ حركة النقد للمساءلة وللمجاهرة، وفي نفس الوقت فإنَّ دورة المناقشة حول ذلك لم تنته بعد وهي لن تنتهي إلا بعد أن تولد أسئلة من نوع جديد. نقول ذلك في زمن يجتاح فيه الساحة التشكيلية كثير من الرؤى الصاعدة. ترى ماهي المعايير التي ستسند عليها اي هيئة من هيئات المحكمين إذا ووجهت بعبارة من نوع «إنَّ اللاشىء شىء» أو من نوع «إنَّ النشاط الذي لا يعرف مكانه من البناء المركب للمعرفة الهادفة للتغيير يصبح بلا غاية» ! . . ! . أو غير ذلك مما تزخر به أدبيات التشكيل في السودان. لا شك أنَّ ذلك يتطلب النظر إليه بكثير من إعمال الذهن ونبذ المسلمات حتى يكون النظر للمنجز التشكيلي، بالقدر الكافي من الموضوعية، هو أمر ممكن.

صلاح حسن عبد الله

رئيس اللجنة التنفيذية للاتحاد العام للفنانين التشكيليين السودانيين (2022 _ 2024)

نوفمبر 2022

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.