كتب: مصطفى الفقي كاتب وباحث
تنعقد الآمال حول اقتراب تسليم السلطة إلى القوى المدنية ويبقى الجيش حصناً للبلاد وضماناً للديمقراطية
عرف السودان منذ استقلاله في أول يناير (كانون الثاني) عام 1956 حكومات تعاقبت عليه وقادة عسكريين ومدنيين تناوبوا مقعد السلطة الأولى فيه ولكن الأمر المؤكد هو أن ذلك البلد العربي الأفريقي الكبير لم يعرف الاستقرار إلا في فترات استثنائية، فقد داهمته الحروب الأهلية والحركات الانفصالية والحكام المغامرون حتى إن كانوا حسني النية صادقي العزم.
ولمصر علاقة متلازمة بذلك القطر الشقيق فكان البلدان دولة واحدة تحت التاج المصري وفي حكم أبناء محمد علي حتى فاروق الأول، وتفاوتت مواقف الساسة السودانيين تجاه العلاقة مع الشطر الشمالي من وادي النيل فاتسم بعضهم بعلاقة طيبة نسبياً مثلما كان الأمر في عهد جعفر نميري أو مضطربة تحيطها شكوك تاريخية وحساسيات موروثة مثلما كان الأمر في ظل حكم أسرتي المهدي والميرغني على رغم قصرهما الزمني، فعرف السودان دورات محدودة من الحكم الديمقراطي ومؤثرة وفاعلة من الحكم العسكري الذي كان أهم رموزه إبراهيم عبود الذي أسقط بانقلاب 21 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1964 أو جعفر نميري الذي أطاحه تمرد وطني في منتصف ثمانينيات القرن الماضي تحت وطأة النقابات العامة وجماعات الخريجين.
السودان ينفرد عن غيره من دول المنطقة بقدرته على إسقاط النظم من خلال حركات العصيان المدني، هكذا فعلها السودانيون في عهد إبراهيم عبود وجعفر نميري وإلى حد كبير ومع الاستعانة بالجيش في حالة عمر البشير الذي كان يكن لمصر كراهية دفينة مجهولة الأسباب فيستخدم العلاقات مع القاهرة صعوداً وهبوطاً في تحريك الشارع السوداني واستخدامه للنزاع الحدودي في تأليب الرأي العام ضد مصر ومحاولة كسب شعبية على حساب الدولة الشقيقة، ونحن نتذكر أنه قبل الاستقلال كان الحزب الاتحادي برئاسة إسماعيل الأزهري يرفع شعار وحدة وادي النيل ويطالب بالاتحاد مع مصر، لكن على ما يبدو أن الصراع بين الضباط الأحرار في القاهرة ثم إقصاء محمد نجيب رئيس الجمهورية المصرية الذي كان وجهاً مقبولاً لدى الأشقاء في السودان غير التوجهات وحول موازين القوى إلى الاتجاه نحو الاستقلال بدلاً من الانضمام إلى مصر تحت أعلام الثورة التي لم يكن السودانيون مرتاحين لكثير من توجهاتها الجديدة، فتحول الحزب الاتحادي وزعيمه الأزهري نحو المطالبة بالاستقلال الكامل والانفصال عن الوحدة مع مصر حتى حصلت الخرطوم على استقلال جمهورية السودان في اليوم الأول من عام 1956 كما ذكرنا.
وبسقوط شعار وحدة وادي النيل فعلياً تأرجح “بندول” العلاقات بين القاهرة والخرطوم يميناً ويساراً بل صعوداً وهبوطاً ووقع البلدان اتفاق مياه النيل الذي مثل مصر فيه السيد زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة المصرية الذي يحظى باحترام جميع الأطراف، وكان السيد عبدالله خليل هو رئيس وزراء السودان الذي كان يشارك رفاقه الشعور بالحذر في التعامل مع مصر والرغبة في استقلال القرار السوداني بعيداً من السياسات الجديدة للزعيم الصاعد جمال عبدالناصر الذي كان يولي وجهه شطر المشرق العربي ويعلن الوحدة مع سوريا بديلاً تاريخياً للابتعاد نسبياً عن السودان بعد أن رقص الصاغ صلاح سالم ذات يوم في إحدى مدن جنوبه إشارة إلى التقارب بين البلدين ورغبة في مجاملة الأشقاء في جنوب الوادي.
ولا خلاف على أن فترة حكم نميري هي الفترة التي استقرت فيها العلاقات بين البلدين لأكثر من 15 عاماً كاملة وساعد على ذلك وقتها اضطراب العلاقة بين ليبيا القذافي وسودان النميري على نحو أدى إلى حرص الطرفين على اتباع سياسة أفريقية وعربية خارج جلباب القاهرة، ثم جاءت سنوات حكم البشير في الخرطوم لتغير صورة مصر لدى الأجيال الجديدة من الشعب السوداني وتنقلها من صورة الشريك في وحدة وادي النيل إلى صورة الجار الذي يجور على حقوق جاره ولا يتعامل معه بالندية المطلوبة، ووصل الأمر إلى حد اتهام الخرطوم بالضلوع الكامل في محاولة اغتيال الرئيس الراحل مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عند حضوره للمشاركة في قمة منظمة الوحدة الأفريقية عام 1995، وحينها تدهورت العلاقات بشكل ملحوظ ونسي الطرفان الدور السوداني القومي المشهود في أغسطس (آب) عام 1967 أثناء انعقاد القمة العربية في الخرطوم وخروج الشارع السوداني كله لدعم القائد العربي عبدالناصر في محاولة لرفع معنويات الشعور القومي والتمرد على أوضاع النكسة، والسودانيون معروفون بأنهم شعب مثقف ومسيس، يقرأ التاريخ جيداً حتى لو أدى ذلك إلى خلط السياسة بالدين أحياناً مثلما كان الأمر مع القوى السياسية التقليدية في العاصمة المثلثة وأنحاء الدولة السودانية الواسعة حتى كان تقسيم السودان إلى دولتين وميلاد دولة الجنوب على رغم أن جون قرنق كان وحدوياً في أعماقه ويسعى إلى الوصول للسلطة في سودان ديمقراطي موحد يقوم على التعددية واحترام الآخر، لكن مقتله في حادثة طائرة كان على ما يبدو جزءاً من التمهيد لما جرى بعد ذلك.
وأتاحت لي وظيفتي المباشرة مع الرئيس الراحل مبارك أن ألتقي الدكتور قرنق في أكثر من مناسبة وكان الرجل يتحدث بلغة واقعية وعادلة متسائلاً، أليس من حقي كواحد من أبناء الجنوب أن أكون يوماً ما رئيساً للسودان الديمقراطي الموحد؟ وكانت الإجابة دائماً هي، نعم إن ذلك من حقك ما دامت الإجراءات الديمقراطية السليمة في ظل المساواة المطلقة بين أبناء السودان الواحد هي التي تظلل طريق الوصول إلى السلطة في الخرطوم، بل إنني أتذكر أنه طلب من الرئيس مبارك دعم عملية تعليم اللغة العربية في الجنوب وقال إنه ليس ضد ذلك على الإطلاق على أن تحترم خصوصية المواطن الجنوبي ومعتقداته سواء كان مسلماً أو مسيحياً أو ليس دينياً، وبهذه المناسبة أتذكر أن الرئيس السابق عمر البشير طلب مني ومن الوفد الدبلوماسي المصري المرافق زيارة نائب رئيس الجمهورية السودانية أثناء وجودنا في الخرطوم لمتابعة أعمال اللجنة المشتركة بين مصر والسودان عام 2000 وقمنا بزيارة السياسي الجنوبي في داره وكان الرجل متوازناً للغاية وحكيماً ومعتدلاً، ولأنني كنت معنياً بوحدة السودان وتماسكه فقد سعيت دائماً إلى الاطلاع على كل ما يكتب عن ذلك البلد الشقيق واعتمدت كثيراً على كتابات السياسي السوداني المخضرم منصور خالد الذي كان واحداً من أقرب مستشاري قرنق وكان شخصية مضيئة تشع ذكاء وتألقاً وقد كان وزيراً لخارجية السودان لفترة محدودة في عصر جعفر نميري.
خلاصة ما أريد قوله في هذا الأمر هو إنني أحد الذين صدمتهم عملية تقسيم السودان وكنت أود لذلك البلد الأفريقي الكبير أن يظل موحداً بخيراته الوفيرة وشعبه الطيب شمالاً وجنوباً ولكن إرادة السودانيين كانت هي الفيصل في الأمر، وتظل علاقتنا بجنوب السودان هي علاقة الأشقاء مهما كانت الظروف والتحديات، إن السودان في مجمله هو همزة الوصل بين العرب وأفريقيا وهو واسطة العقد بين منابع النيل الخالد ومصبه الأزلي، وسوف نتطلع دائماً إلى الشعب السوداني باعتباره الشقيق التوأم أفريقياً وعربياً مترقبين المستقبل الواعد لتلك الدولة الثرية بمواردها الطبيعية والبشرية على الدوام.
والآن يلح علينا السؤال إلى أين يتجه السودان؟ فأنا متفائل ببعض التصريحات الرسمية التي تتحدث عن قرب تسليم السلطة إلى القوى المدنية حتى يبقى الجيش السوداني حصناً للبلاد وضماناً للديمقراطية وحارساً للشعب الشقيق.