أحبك كما يغني خضر بشير
كتب: أ. عبد العزيز بركة ساكن
.
الموسيقى ليست التحدث بواسطة آلات لقول كلمات وفقا للحن أغنيةِ ما. فالموسيقى بناء هرمي صارم تجريدي لا يمكن تفسيره أو تقويله. أما “خضر بشير” فقد كان متقدمًا بسنوات كثيرة على أقرانه المصاحبين له الذين يحاكون كلماته في خجل بالكمنجات وما توفر لديهم من آلات غربية وشرقية. كان يقوم بصنع الموسيقى عن طريق العزف على أوتاره الصوتية وهي الآلة هبة الطبيعة المصاحبة لكثير من الكائنات البشرية وغيرها. بل توجد حتى في الجمادات: الريح، الصخر والمطر والصمت واللغة والروح. هي القاسم المشترك لكل ما في الكون لإنتاج موسيقى الطبيعة.
العرق الذي يقطر من وجهه، يسيل علي جبينه، ويختلط بدموعه، ويزين ابتسامته المراوغة، يعادل ذلك الجهد الكبير الذي يقوم به الفنان من أجل تغطية عجز عازفي الآلات من تنشئة موسيقى حقيقة، وتجاهل الصدى الذي يحاكيه، لا أدري لماذا لم يفكر خضر بشير في الغناء بمفرده، أو لماذا لم يهرب من مدينة الخرطوم، حيثُ إن الموسيقى خارج الخرطوم كانت كائنة وحقيقية منذ عصور بعيدة، ففي النيل الأزرق تقوم آلات “الوازا” بإنتاج موسيقى يؤلفها موسيقيون طبيعيون أقرب للسحرة، وما كانت ستعوقه تلك الطقوس السحرية والمراسيم الاجتماعية القبلية المعقدة التي تصطحب عمل عازفي الوازا. كانت الموسيقى خارج الخرطوم في اداء المانجي وتصويت الشاشاي والجراي عند عرب كردفان وعازفي آلات ام كيكي ذات الوتر الواحد المصنوع من صوف ذيل الزرافات في دارفور. والربابات الشعبية في الشمالية، في نوس الأشجار، ودعاء الكروان، في خرير المياه، في كل شيء خارج المدينة.
وفجأة ظهر في الخرطوم رجلٌ كان يعمل في مكينة خياطة، واكتشف فراغ الموسيقيين في المكان حوله، وتغني بالفراش الحائر، وهو ما عُرف فيما بعد بالفنان عثمان حسين، ولكي يغطي الموسيقيون على تلك الفضيحة الكبيرة وعجزهم، اتهموه بأنه يقلد موسيقى الافلام الهندية ويغرب ما تعارفوا عليه في الخرطوم. ولكنه في الواقع كان يفتح بوابة الحداثة الفعلية في أغنية الخرطوم وما جاورها من مدن صغيرة منبتة الأصل، ترك سكانها الموسيقى خلفهم في قراهم وبيوتهم وترابهم وانهرهم ورياحهم وامطارهم، وفي خاطر عازفيهم المحليين وجاءوا ليصدقوا كذبة عازفين وملحنين كانوا في يوم ما منهم، ثم شوهتهم المدن الطينية الصغيرة البائسة. لولا ان أنقذهم عثمان حسين بفراشاته الحائرات، وتنفست حينها الآلات الموسيقية الصُعداء وبدأت بالقيام بدورها، بدلًا من محاكاة كلمات الأغنيات والمغنيين أخذت تنتج شيئًا يخصها لتستحق اسمها.
يغني خضر بشير، عازفا على أوتاره الصوتية، عازفًا على كل عضلات جسده، يغني عازفًا على وجهه، وبمن حوله من موجودات، يغني بروحه، بكل مشاعره، بالحب بالكمات، بخيبة الموسيقيين، بِحَزَنِ الآلات العاجزة عن القيام بدورها، يغني بحبيبته، بأصابع يديه، بيديه، بعينه، يغني بكل ما هو حوله وبما هو ليس حوله، يغني بي وبك وبأُمه، بدينه بحَزَنِه وفرحته بصوفيته، بصلاته ونسكه، بحياته كلها، يغني لنفسه أولًا ثم لنفسه ثانيًا، يغني من أجله هو بالذات:
الاوصفوك
بالبدر أو بالزهر هم ما أنصفوك
كيف يجهلوك
وعلى الجمال العادي راحوا يمثلوك
لو بادلوك عين الحقيقة
وبالبصيرة تأملوك.