كأس العالم أو في فضيلة الإلهاء الجماعي للوعي

0 97

كتب: د. عمرو حمزاوي

.

ما أن بدأت الدورة الحالية لكأس العالم لكرة القدم، قطر 2022، إلا وتراجع الاهتمام العالمي بكل ما شغل الشعوب والبلدان خلال الفترة الماضية.
لم نعد نتابع لا أخبار الحرب الروسية على أوكرانيا، ولا تطورات السياسة الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلن بها الرئيس السابق دونالد ترامب ترشحه للانتخابات الرئاسية 2024، ولا الصراع في ألمانيا حول مقترحات تعديل قوانين التجنيس، ولا أزمة الطاقة العالمية التي باتت تهدد القارة الأوروبية مع اقتراب فصل الشتاء، ولا عودة إصابات كوفيد 19 في الصين إلى الارتفاع والاحتجاجات التي حدثت في بعض المدن بسبب الإجراءات الحكومية المشددة، ولا تعقد الأوضاع المعيشية للناس في مختلف بقاع الأرض التي تشهد إجمالا زيادات مستمرة في أسعار الغذاء والطاقة والسلع الأساسية الأخرى وتواجه هنا وهناك خطر المجاعات والجفاف.
كذلك لم تعد أغلبيتنا تتابع أحوال منطقتنا التي يتعثر بها انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية وتنهار بها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلد العربي الصغير، ويقود بها بنيامين نتنياهو تشكيلا ائتلافيا جديدا في إسرائيل لا يعرف بعد حدود تطرفه، وتقترب بها أطراف الأزمة الداخلية في السودان من التوافق حول سبل الانتقال الديمقراطي، بينما تواصل السلطات الإيرانية قمع التظاهرات السلمية التي تطالب بحماية حقوق النساء وكف يد الملالي عن حياة الناس ويتكرر إعلان البحرية الأمريكية إيقاف سفن إيرانية محملة بالسلاح ومتجهة إلى اليمن.
بدأت مباريات كأس العالم، وشعرت أغلبيتنا أننا بالفعل في أمس الاحتياج إلى إجازة للابتعاد عن الأخبار السيئة التي لم تبتعد عنا منذ عصف كوفيد 19 بدنيانا في بدايات 2020 وللاستمتاع بلحظات من السعادة التي يحققها سحر اللعبة الأكثر شعبية في العالم ومنافساتها الشيقة ونتائجها غير المتوقعة. بدأت مباريات كأس العالم، وكانت أغلبيتنا تضطلع بالفعل لاختفاء صور الحرب والدمار القادمة من أوكرانيا وصور المدن الصينية المفروض عليها حظر التجوال وصور النساء من ضحايا القمع في إيران واستبدالها بصور مغايرة لافتتاح كأس العالم في قطر والأهداف الجميلة المسجلة في البطولة والنجوم الجدد الذين ستشهد الملاعب ميلادهم.
هل أصبحت كأس العالم لكرة القدم لذلك بمثابة أفيون للشعوب؟ هل نتحايل بها على الحروب والكوارث والأزمات التي تطوق وجودنا ونتناسى معها ما ينبغي علينا فعله لمواجهتها؟ وهل علينا أن ننظر إلى إجازة السعادة والفرح والاستمتاع بمباريات الكرة والابتعاد عن الأخبار السيئة هذه كخطيئة لا ينبغي علينا التورط بها أم كفضيلة يصح التمسك بها؟

بدأت مباريات كأس العالم، وشعرت أغلبيتنا أننا بالفعل في أمس الاحتياج إلى إجازة للابتعاد عن الأخبار السيئة التي لم تبتعد عنا منذ عصف كوفيد 19 بدنيانا في بدايات 2020 وللاستمتاع بلحظات من السعادة التي يحققها سحر اللعبة

عن نفسي، لا أشك ولو للحظة واحدة في أن الرد على السؤال الأول والثاني هو بالإيجاب. فكأس العالم تعد، مرة كل 4 أعوام، بتكثيف إبهار ومتعة كرة القدم لعشاقها لمدة شهر كامل (أو يزيد). وهي، بذلك، تأخذ مئات الملايين بعيدا عن متابعة أخبار الحروب وكوارث وشرور عالمنا الأخرى، وتدخلهم على اختلاف لغاتهم وتفاوتهم فقرا وغناء في خيمة عالمية للبهجة عمودها هو عشق الكرة. في تلك الخيمة، والتي تعبر عن رمزيتها بجلاء مسميات الاستادات التي تلعب على أرضياتها مباريات الدورة الحالية لكأس العالم في قطر وعبرت عنها في الدورات السابقة الأماكن الواسعة التي خصصت للعشاق والأنصار وعموم المشجعين ويصنعها افتراضيا البث الفضائي المباشر للمباريات، تخدر الكرة وعينا فندير ظهورنا إلى الحروب وغيرها ونتحايل جماعيا على الأزمات وما ترتبه من هموم ومعاناة موظفين إبداع ميسي ومهارة نيمار وسرعة النفاثة الفرنسية كيليان إمبابى.
يصبح السؤال الحقيقي، إذا، وبعد التسليم بالتأثير المخدر لكأس العالم على وعي أغلبيتنا، هو وهل من خطيئة في ذلك؟ أحسب أن الجنس البشري دوما ما بحث عن سبل للتعايش مع الشرور المحيطة بوجوده والتكيف معها، وليس فقط مواجهتها والعمل على التخلص منها، والإلهاء والتحايل وتخدير الوعي الجماعي على نحو ينقله من وضعية الحزن الواقعية وطويلة المدى إلى حالة مؤقتة من السعادة والفرح هي من أقدم السبل التي ابتدعناها للتعايش والتكيف. تحمل عادات وتقاليد كل شعوب وبلدان الأرض ثقافاتها تراثا ثريا من الإلهاء والتحايل وتخدير الوعي للتخفيف من وطأة يوميات الحزن والشرور والأزمات المحيطة بنا وتمكيننا من مواصلة الحياة بشيء من السعادة والفرح اليوم وشيء من الأمل في الغد.
في وعينا، ندرك أن جنسنا البشري، وعلى الرغم من تقدمنا العلمي والتكنولوجي المبهر، عجز عن حماية كوكبنا الجميل من الدمار والتلوث إلى الحد الذي بات استمرار حياتنا عليه مهدد بشدة. في وعينا، ندرك أن جنسنا البشري، وعلى الرغم من ابتداعه للعديد من أدوات الحل السلمي للصراعات والنزاعات، عجز عن وضع حد للحروب بين الدول وللحروب داخل الدول ولم يأبه بالكلفة الباهظة دماء ودمارا وارتحالا وشقاء. في وعينا، ندرك أن جنسنا البشري، وعلى الرغم من وعود الأغنياء الكثيرة والمتكررة بمساعدة الفقراء وتجنيبهم كوارث الفقر والجوع والمرض عن طريق التنمية المستدامة، قبل عملا تواصل موت ملايين الأطفال والبالغين سنويا جوعا ومرضا وغرقا في مراكب الهجرة إلى الشمال هربا من جوع ومرض الجنوب.
في وعينا، ندرك كل ذلك وأكثر. غير أن حمل الوعي يظل بالغ الثقل ومدعاة دائمة إما للحزن والشعور بالعجز وفقدان الأمل أو للثورة على الواقع ومحاولة تغييره بالقوة، ولأن فقدان الأمل يفشل حتى الخطوات الصغيرة لتحسين بعض جوانب واقعنا الأليم ولأن الثورة ومحاولة التغيير بالقوة ثبت تاريخيا فشلهما، يظل الأفضل لجنسنا البشري التعايش والتكيف مع الواقع تارة بخطوات إصلاحية صغيرة وتارة بإتباع سبل الإلهاء والتحايل والتخدير المؤقت للوعي.
ولا أعرف في عاداتنا وتقاليدنا وثقافاتنا سبيلا للإلهاء الجماعي للوعي أكثر شعبية أو أجمل من كرة القدم وكأس عالمها. فاستمتعوا!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.