مركز التقدم العربي للسياسات
ورقة سياسات : ذو النون سليمان
.
تقديم : تم التوقيع علي عدد من الاتفاقيات العسكرية ذات الصبغة الأمنية بين حكومتي السودان وأثيوبيا في الفترة الماضية تتعلق بأمن الحدود المشتركة ,وذلك بعد سلسلة من المعارك العسكرية حول منطقة الفشقة الحدودية محل النزاع بين الطرفين والتي كادت أن تفضي الي حرب اثيوبية سودانية شاملة .هذه الاتفاقيات نصت على تبادل المعلومات حول أنشطة الميليشيات المسلحة ومهربي السلاح على الحدود الشرقية الي جانب العمليات المشتركة لمنع تجارة البشر والإرهاب الذي يشكل تهديدا كبيرا في المنطقة , جري أيضا تبادل للأسرى الذين كانوا محتجزين طيلة فترة الصراع الحدودي , وبلغ عددهم 66 أسيرا تأكيدا على رغبة البلدين علي التعاون من خلال بناء الثقة وعلاقات استراتيجية جديدة من أجل مصلحة البلدين.
تحليل :
تعكس هذه الاتفاقيات حالة الأزمات الداخلية للبلدين اللذين يعانيان من الحروب الأهلية , وطبيعة الأنظمة العسكرية التي تميل للمعالجات الأمنية من خلال تعاملها الانتقائي مع أزماتها في الحكم . فالجانب السوداني يعاني من تحديات الانتقال بعد ثورة شعبية أسقطت نظام البشير في العام 2019 وأتت بالجنرال عبد الفتاح البرهان رئيسا للدولة وفق شراكة توافقية مع تيار المعارضة الرئيسي – قوي الحرية والتغيير- ليشكلا حكومة ، سرعان ما شهدت مقاومة مدنية ورفض جماهيري لها ,خاصة بعد تجميد الوثيقة الدستورية والاطاحة بحكومة عبدالله حمدوك .
على الرغم من التوصل لاتفاق إطاري بين شركاء العملية السياسية يمهد لإنجاز مهام الانتقال ، تظل تحديات وحدة التراب السوداني من أكبر المخاطر على الدولة السودانية ، خاصة مع ارتفاع الأصوات الانفصالية في شرق السودان نتيجة لتحفظاتها المسبقة على مسار الشرق في اتفاقية جوبا ورفضها للاتفاق الإطاري برعاية الالية الثلاثية بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير- اللجنة المركزية, وموقفها الاحتجاجي من تغييبها عن اتفاقيات الاستثمار الإماراتي في الموانئ التي جري توقيعها مع السودان . هذه العوامل مجتمعة كانت الدافع الرئيسي لحكومة البرهان حول خيارات التعاون الأمني مع الحكومة الاثيوبية التي تعاني من ذات الداء وتعايش ذات التحديات التي كادت تعصف بوحدتها وذلك بعد تمرد جبهة التيغراي واندلاع العمليات العسكرية التي وضعت فدرالية الدولة الاثنية علي المحك . كما بدأت تلوح في الافق تململ القوميات الكبرى الأخرى والمتمثلة في الامهرا والأرومو وتطلعهم لامتيازات سياسية كبرى وذلك بعد النهاية التراجيدية لهيمنة التيغراي على دواليب الدولة الإثيوبية لثلاثين عاما خلت . وعلى الرغم من توقيع رئيس الحكومة الاثيوبية ابي أحمد وجبهة تيغراي على اتفاقية السلام ووقف إطلاق النار في جنوب أفريقيا في نوفمبر الماضي، إلا أن مخاطر تجدد الصراعات المسلحة داخل الفدراليات الاثنية لا زالت تحدق بالنظام المحاصر بأزمته الاقتصادية واستحقاقات حلفاء حربه في الداخل ( الامهرا) و في الخارج ارتريا التي تبدي تحفظا واضحا حتى الآن على الاتفاق الذي يهيئ الصراع للانتقال الي داخل أراضيها عبر بوابة العرقية المشتركة بكل حمولتها التاريخية الدامية.
التقارب السوداني – الإثيوبي أملته تهديدات جدية للوحدة الجغرافية وموجة المطالب الانفصالية للمجتمعات الثائرة على القيادة العسكرية للبلدين التي تناست تبايناتها مؤقتا حول قضايا سد النهضة والأراضي الحدودية المتنازع عليها والتزاماتها الدولية للقطبين الروسي والامريكي , هذه الاتفاقيات تعكس قناعات الجنرالات بمدى هشاشة الأوضاع وقابليتها لإنتاج كيانات سياسية جديدة على الجانبين في ظل تنافس دولي وإقليمي محموم على المنطقة ذات القيمة الاستراتيجية الأمنية بفضل وقوعها علي سواحل البحر الأحمر . يؤشر ايضا الى ان هذه الاتفاقيات ذات البنود العسكرية هي اتفاقيات وقائية تهدف في المقام الأول للمحافظة على سلطة الحاكمين في الخرطوم وأديس أبابا عبر تأمين حدود البلدين من أنشطة المعارضات المسلحة والمليشيات التي تجدد انتفاضاتها على الدوام ، بسبب العجز التاريخي عن التعاطي مع جذور أزمة دولهم الوطنية ، هذا لا ينفي تأثير أنشطة هذه المجموعات والميليشيات على الأوضاع الامنية في المناطق الحدودية والتسبب في حدوث الاشتباكات بين الجانبين ، و الذي يستخدم دومًا لأغراض التجييش الداخلي الدائم . يدرك قادة الجيش السوداني الحاكم أهمية الاوراق التي تملكها اثيوبيا وحليفها الارتري في شرق السودان والنيل الأزرق ودارفور وجنوب كردفان وعلاقاتها التاريخية مع القوى السياسية والمسلحة في هذه المناطق ، والتي بدأت في اعادة النظر في التزاماتها الموقعة عليها في اتفاق سلام جوبا ، كرد فعل علي استمرار الازمة وتاخر التقاسم الحقيقي لملفات السلطة والثروة ، حيث يرون في الاتفاق الإطاري محاولة لتكرار إقصائهم وتهميشهم اقتصاديا وسياسيا الامر الذي يحدث منذ استقلال السودان في 1956.
يحتاج الجانب السوداني أيضا إلي قطع الطريق أمام اندلاع أي تمرد بشرق البلاد , و تأمين المشاريع الاستثمارية في تلك المنطقة التي تم توقيعها مع المستثمرين لإنقاذ اقتصاده المنهار , الامر الذي يفرض عليه البحث عن صيغ أمنية مثلى لضمان انسياب شريانه الاقتصادي المتمثل في الموانئ , وتامين أمنه الداخلي خاصة في ظل بروز ظواهر بتجدد الحرب الاهلية في مناطق عدة من الهامش ، مع استمرار ضعف جهاز الدولة في الأطراف وصعود سلطة القبيلة في ظل انتشار السلاح وتكاثر المليشيات والجماعات المسلحة علي أساس اجتماعي أو عرقي.
بالمقابل ، تبرز رغبة النظام الإثيوبي في توفير ضمانات أمنية لاتفاقه مع جبهة التيغراي المهدد بالفشل ، وذلك عبر السيطرة العسكرية الكاملة على حدوده الغربية التي تعتبر منصة للانطلاق وتأمين الدعم لميليشيات القوميات المتصارعة ، فمعظم المؤشرات تتحدث عن إمكانية تجدد حروب القوميات في أثيوبيا نتيجة لغياب مشروع الدولة الوطنية ذات الهوية الواحدة ، كإفراز للهيمنة التاريخية للامهرا والتيغراي اللتان انفردتا بالحكم وتركتا تاريخا مثقلا بعدم الثقة والتشكيك في فكرة دولة المواطنة المتساوية ، الامر الذي يرجح سيناريوهات عودة الحرب وشبح التقسيم ، وهو ما يعيه النظام ويحتاط له بالمزيد من الاستراتيجيات الأمنية وفق طبيعة تكوينه .
يدرك النظام الاثيوبي والسوداني , أنهما مثقلان بالبارود الذي لا يحتمل اللعب بالنار , فكلاهما , يمتلكان تحديات داخلية تهدد وحدة الدولة ووجودها , ويتشاركان حدود برية طويلة تبلغ حوالي 1600 كيلو متر بتضاريس طبيعية يصعب السيطرة عليها , ويتقاسمان كيانات اجتماعية ذات ولاءات مزدوجة بحكم تعريفها كقبائل عابرة للحدود ، لها طموحاتها السياسية وتتنافس على الموارد المحلية لدرجة القتال علي الأراضي الخصبة . هذه العناصر تجعل من الدولتين أرضية مثالية لنشوء نزاعات الحدود , أو لتوظيف المعارضات المسلحة لزعزعة النظام خاصة مع الموقع المثالي للدولتين وارتباطهم بمنطقة البحر الأحمر التي تعتبر مسرح صراع دولي حول النفوذ بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وحلفائهم الإقليميين الذين لن يترددوا في استخدام التناقضات الداخلية من أجل خلق التوتر بين أديس أبابا والخرطوم وعدم استقرار العلاقة بين البلدين حتي يتسنى لهم تحقيق مصالحهم في التواجد العسكري علي المياه السودانية والأثيوبية والاستفادة من الموارد الطبيعية للبلدين.
الخلاصة : في هذه الجولة انتصرت براغماتية العقلية العسكرية الحاكمة في إثيوبيا والسودان على تعقيدات الملفات السياسية الشائكة بين البلدين , وعلي مخططات القوى الدولية المتصارعة على منطقة البحر الأحمر والتي لا تبالي بمصالح الشعبيين , بهذه الاتفاقيات العسكرية كسب النظامان فسحة من الوقت لترتيب أوراقهم الداخلية , وكروت إضافية ضد خصومهم الداخليين عبر استراتيجية إغلاق المنافذ , ولكن , التجارب علمتنا بأن الحلول الأمنية تصبح مضيعة للوقت إن لم يتم توظيفها لتحقيق هدف سياسي يساهم في تحقيق السلام والاستقرار.