الاتفاق الإطاري: النبل ليس استراتيجية (2-2)

0 61

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

واحدة من مزالق الإطاري الكبرى هي تقسيم التسوية إلى مرحلتين. فجرى التوقيع في الإطارى على مبادئ عامة للحكم وإجراءات في تشكيل الدولة في حين أجلوا مناقشة السياسات حيال العدالة الانتقالية مثلاً لطور قادم مبهم من النقاشات الموسعة. وهذا مما وصف بوضع الحصان امام العربة. وغير خاف أن الاتفاق حول هذه السياسات حتى قبل الإطاري كان دونه خرط القتاد.

فقضية شرق السودان من ضمن القضايا التي تنتظر النقاش الموسع بين القوى المدنية المتنظر كسبها للإطاري. ولا ندري كيف صارت قضية الشرق مستقلة عن قضية مراجعة اتفاق سلام جوبا الذي ينتظر مستقلاً دوره في هذا النقاش الواسع. فأول بروز مشكلة الشرق كان بعد توقيع سلام جوبا في أكتوبر 2020 الذي حوى “مسار الشرق” الخلافي. ثم تصاعد الاحتجاج ضد المسار في ذروته في يوليو 2021 بتتريس نظارات البجا والعموديات المستقلة بقيادة محمد الأمين ترك، ناظر شعب الهدندوة، طريق الخرطوم بورتسودان مطالبين بإلغاء المسار. وحجتهم في ذلك أنهم غيُبوا ظلماً عن المشاركة في التفاوض حوله والتوقيع عليه.

ولا يتفاءل المرء بنجاح المناقشة العامة المنتظرة وجدول أعمال المناقشة العامة بهذا الارتجال يفرق بين مسائل أصلها واحد. بل لم يذكر محمد الفكي، عضو مجلس السيادة السابق ومن أنصار الاتفاق الإطاري، عقدة المسار في أزمة الشرق طوال حديثه لبرنامج تلفزيوني قبل أيام. فأفاض عن تهميش الشرق ما شاء. ولا جديد في هذا التهميش سواء في الشرق أو النيل الأزرق مثلاً. وتغاضى مع ذلك عن مسار الشرق. وهذا مؤذن بمناقشة عقيم حول مشكلة الشرق. فإلغاء المسار خط أحمر ممنوع الاقتراب وقفت دونه قوى سلام جوبا والجماعات من شرق السودان التي وقعت عليه. وظل المطلب يراوح مكانه منذ اعتصمت نظارات البجا لأجله إلى يومنا كما مر.

الإطاري حالة كاملة من الوهن. وهو ليس وهن المركزي وحده. إنه وهن ناشب بقوى دعوة التغيير الاجتماعي في السودان. وهو وهن قديم. ولذلك فإن تؤيد الإطاري أو تعارضه زي بعضو. وهو قريب من قولنا في السودان إنه “جنازة بحر” وهي عن خطأ كبير يرتكبه المرء فيأتي المعين ويقول لك: “جئنا نكفن معك جنازة بحرك هذه.”

ونبهت أماني الطويل بحرفيه إلى أن صراع المع والضد حول الإطاري هو ضرب من “صناعة المزيدات”. فمن معه يحرق له البخور ويعمى عن مهالكه. ومن ضده يحرقه ناشفاً ويعمى من أن يرى نفسه فيه. فوجدت جعفر حسن، الناطق الرسمي لقوى الحرية والتغيير، يزكي الإطاري لأن من شروط رئيس الوزراء فيه أن يكون ملتزماً بثورة ديسمبر 2018 لا كما في الحكومة الانتقالية الماضية. ولا أعرف إن لم يلتزم عبد الله حمدوك، رئيس وزراء الانتقالية، بثورة ديسمبر حتى يكون الالتزام بها هذه المرة كسباً. وضمن ترويج مجاني آخر قال جعفر إن كل حراك سلمي مثل ثورة ديسمبر لابد أن ينتهي بالتفاوض والتسوية. والتسوية في قوله خير لأن مثل هذا الحراك، إذا استنجد بانقلاب عسكري، فسد. وهو هنا يفصل الأمر في مقاس الإطاري كما الحال في كل بربوقندا. ولا أدرى لم قصر جعفر التسوية على الحراك السلمي. فحتى الحرب تنتهي إلى تسويات في غالب الأحوال.

أما من جهة الرافضين للإطاري فقولهم مجرد دعاية مضادة. فقال فتحي فضل، الناطق باسم الحزب الشيوعي، إن الإطاري صناعة أجنبية وقع عليه من وقع تحت تهديد عصا السفير الأمريكي الذي جاء بالخبرة من بلدان أذاق عصاته أهلها. وتطابق فتحي هنا مع إعلام الجبهة الإسلامية العريضة، المتهمة بأن أعوان البشير من ورائها، الذي لا يركز على أجنبية الإطاري فحسب، بل يسير المواكب كل سبت لمكاتب الأمم المتحدة لطرد فولكر بيرتس لتطفله على الوطنية السودانية. وتغاضى فتحي هنا عن الذي جاء يحمله هذا السفير حقاً هو قانون التحول الديمقراطي المجاز من الكونغرس. والقانون قد يكون أي شيء آخر غير أنه عصاة يهش بها الحرية والتغيير.

ولا يعني تعطيل الحكم مع الإطاري أو ضده الكف عن نقده في نصه ومنعطفاته. فالمراد من التعطيل هنا منع “صناعة المزيدات” في الثورية. فمتى عارضت جماعة محسوبة على الثورة الإطاري تقمصتها ثقافة معارضة سودانية عتيقة تولدت من حرب المعارضين المتطاولة ضد عقود من الديكتاتورية. وكان الصواب المطلق في هذه الحرب زينة المعارض في حين يشين الحكومة الخطأ المطلق. فلم تعد المعارضة بذلك حالة سياسية بل حالة تجاحد. وما هد حيل الحكومة الانتقالية التي انقلب عليها العسكريون في أكتوبر 2021 مثل “النيران الصديقة”، أي تلك التي جاءتها ممن كانت تظن صداقته.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.