مداخل لإصلاح سياسة السودان الخارجية
ففور إستيلائه على السلطة، عمد النظام إلى إحالة الكادر الدبلوماسي المؤهل مهنيا في وزارة الخارجية والبعثات الدبلوماسية إلى التقاعد، وقام بتعيين كوادر الجبهة الإسلامية، على أساس الانتماء والولاء وليس الكفاءة، في الوظائف الدبلوماسية والإدارية التي أفرغت من مستحقيها، وما صاحب ذلك من عمليات فساد مالي وإداري غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث، مثلها في ذلك مثل كل السياسات والمؤسسات الأخرى في البلد التي طالتها ذات ممارسات الإنقاذ.
ونحن عندما نشير إلى عمليات التخريب والتشويه والإفساد وتجريف الكفاءات التي نفذها نظام الإنقاذ
بحق سياسة السودان الخارجية ومؤسساتها، لابد أن نستدعي، تحسرا، التاريخ الناصع لأجيال من عظماء الدبلوماسية السودانية ظلوا بحق مفخرة للوطن ونبعا غنيا بكنوز المعرفة والثقافة والخبرة لأجيال لاحقة، كما لابد أن نستدعي صمود وبسالة مجموعات الدبلوماسيين السودانيين الذين لم تلن عزيمتهم في مقاومة سياسات الإنقاذ المدمرة، سواء الدبلوماسيين الذين أبعدتهم وفصلتهم الإنقاذ قسرا وتعسفا، أو الذين ظلوا في الخدمة حتى اليوم دون تلوث ويقاومون تلك السياسات من داخل مؤسساتها، فكانوا جميعهم بحق من ضمن جنود ثورة ديسمبر/ كانون الأول العظيمة. ومع ذلك، وللأسف الشديد، تعرض معظم هولاء الشرفاء لذات العسف عقب إجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 الإنقلابية.
لولا تأخر وتلكؤ عملية إصلاح سياسة السودان الخارجية ومؤسساتها بعد الثورة واصطدامها بحقيقة أن الإصلاح المؤسسي في البلاد لن يفلح معه التعامل المجزأ مع كل مؤسسة على حدة، وإنما لا بد أن يكون شاملا وفق خطة متكاملة
وقبل مواصلة النقاش والخوض في تفاصيل عملية إصلاح سياستنا الخارجية، لابد من التنبيه إلى حقيقة أننا من غير المتمكنين الملمين بتفاصيل أركان علوم الدبلوماسية والسياسة الخارجية، وكذلك لسنا من العارفين ببواطن ما يدور في مؤسسات السياسة الخارجية من وزارة وبعثات دبلوماسية، ولكنا من المتابعين اللصيقين لهذه الجبهة بحكم نشاطنا وخبرتنا في العمل السياسي العام. لذلك، ونحن نتأهب لكتابة هذه السلسلة من المقالات حول إصلاح سياسة السودان الخارجية، كان لابد من أن نتواصل مع مجموعة من الدبلوماسيين السودانيين، في الخدمة وفي المعاش القسري، نبتغي المعرفة بالتفاصيل والتاريخ، وننهل من رؤاهم حول كيفية الإصلاح، بإعتبار أن رؤاهم هذه هي الأقرب من غيرهم إلى الواقع والعلمية، وأنهم الأكثر تمكنا لتحويل الكلام العام حول إصلاح سياسة السودان الخارجية ومؤسساتها إلى بنود عمل ملموسة وقابلة للتحقق. فلهم منا الشكر أجزله ومن الثناء أوفره.
ومواصلة لما تناولناه في نقاشنا في مقالنا السابق، نعتقد أن إصلاح السياسة الخارجية ومؤسساتها في السودان يتطلب القناعة التامة بعدد من المداخل الهامة، منها: أولا، السياسة الخارجية للسودان، وفي الحقيقة لأي بلد، تمثل امتدادًا وانعكاسًا لسياسته وأوضاعه الداخلية، ويتم رسمها تلبية للمتطلبات المحلية، وبالتالي فإن نقاط القوة أو الضعف في سياستنا الخارجية وفي نشاطنا الدبلوماسي هي نتاج نقاط القوة والضعف في واقعنا الداخلي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ثانيا، تلعب السياسة الخارجية والدبلوماسية دورا قياديا لا يمكن الاستغناء عنه في عمليات التنمية الاقتصادية في البلاد، وذلك عبر تطبيع علاقات السودان مع الدول والمؤسسات الدولية المانحة للمساعدات، إدماج الاقتصاد السوداني في الاقتصاد الدولي في مجالات التجارة والاستثمار، إتخاذ التدابير التي تضمن إنتفاع السودان من المبادرات الدولية كمبادرة إلغاء الدين الخارجي للبلدان المثقلة بالديون»الهيبك» ومبادرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونادي باريس، التوقيع والمصادقة على اتفاقيات الشراكة الإقتصادية ووضع أسس راسخة للتكامل الإقليمي وتبادل المنافع مع كل دول الجوار..الخ. ثالثا، الدبلوماسية ليست وظيفة عادية وإنما هي حرفة ومهنة، كمهنة الطب أو الهندسة أو غيرهما، من حيث التأهيل الأكاديمي والتدريب، وفوق كل ذلك هي مهنة حساسة جدا لها مواصفاتها ومتطلباتها الخاصة بها والتي يجب أن تتوفر في المتقدمين للإلتحاق بها، لذلك تتشكل لجنة المعاينات لها من خبراء من أساتذة الجامعات يشرفون على وضع الامتحانات التحريرية، ويكون هناك طبيب نفسي من ضمن عضوية اللجنة، وكل ذلك حتى يتسنى اختيار أجود العناصر التي ستمثل البلاد في الخارج ولا تمثّل بها، مثلما حدث من ممارسات مؤسفة ومخجلة لم نسمع بها من قبل إلا إبان عهد الإنقاذ، عندما أصبحت الدبلوماسية مهنة يغشاها كل من هب ودب دون تمحيص في كفاءتهم لهذه المهنة الحساسة، وكانت وزارة الخارجية محط أطماع سدنة النظام بما تحمله الدبلوماسية من بريق اجتماعي ومظان للدعة والعيش الرغيد والتسفار واكتشاف العالم.
وسنواصل النقاش