جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (10 من 10)
كتب: د. عمر مصطفى شركيان
.
عوداً إلى بدء، فقد اتَّصفت السياسة في مرحلة الكفاح نحو الاستقلال بغوغائيَّة مفرطة في مسألة الاتحاد مع مصر، وكان على رأس هذه الحملة الاتحاديَّة جميع الأحزاب التي صنَّفت أنفسها بأنَّها من أنصار الاتحاد مع مصر تحت التاج الملكي المصري. وقد أوغرت هذه الحملة شعوراً في نفوس الجانب المصري حتى أخذ يرى السُّودان بأنَّه ما هو إلا امتداداً لمصر جنوب وادي نهر النيل. ولعلَّ أكثر النَّاس ذهاباً في هذا المنحى ما نشره عبد الفتاح أبو الفضل في كتابة الموسوم “مصر والسُّودان: بين الوئام والخصام” الصادر العام 1995م. لقد سرد عبد الفتاح الوقائع التاريخيَّة بصورة ملتوية للتوصل إلى النتائج التي ظل يحملها في مخيَّلته مسبقاً، وهي تلك النتائج التي حسبها، وحاول أن يقنع بها القرَّاء، بأنَّ السُّودان ظلَّ جزءاً لا يتجزَّأ من الدولة المصريَّة منذ أقدم العصور. إذا كان الاستعمار حجة لادِّعاء سيادة دولة على دولة أخرى لكان السُّودان أولى بهذا الزعم لأنَّه استعمر مصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين في المملكة الكوشيَّة.
في نافلة القول نستطيع أن نسلِّط الضوء على قضيَّتين تعامل معهما آباء الاستقلال بشيء من الإخفاق شديد. القضيَّة الأولى هي سعي حكومة إسماعيل الأزهري سعياً حثيثاً إلى الانضمام إلى جامعة الدول العربيَّة، برغم من المعارضة العارمة التي وجدتها من قبل بعض الزعماء العرب الأقحاح، وذلك في الحين الذي ترك الأزهري الإمبراطور الإثيوبي هايلي سيلاسي منتظراً في أديس أبابا بعد أن أعدَّ له الإعداد التشريفي الكامل لاستقباله في سبيل التفاكر معه في مشروع تأسيس منظمة الوحدة الإفريقيَّة (الاتحاد الإفريقي حاليَّاً). هذه الجامعة لم تحقق للسُّودان خاصة، والعرب عامة، أي مبتغى سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، وقد فشلت في درء أو حل الحروب التي اشتعلت بين الدول الأعضاء، وهناك أمثلة كثيرة في هذا الشأن.
القضيَّة الثانية تتمثل في رفض الحكومة السُّودانيَّة الناشئة الانضمام إلى مجموعة دول الكومونويلث، وهي منظومة الدول التي كانت ترزح تحت الإمبراطوريَّة البريطانيَّة، وحينما نالت هذه الدول استقلالها انخرطت في هذه المنظومة حتى تحظى بالمساعدات الاقتصاديَّة والتنمويَّة والتعليميَّة. وليس من سبيل إلى الشك في أنَّ منظومة الكومونويلث قد استظهرت كثراً من المصالح المشتركة، وهي: اعتبار اللغة الإنجليزيَّة لساناً ثانياً لأغلب الدول الأعضاء، واللسان الأوَّل لكثرٍ منها؛ الأنظمة القانونيَّة القائمة على القانون الإنجليزي؛ الروابط والمنح الدراسيَّة من خلال الجامعات؛ التقاليد والأعراف العسكريَّة؛ الأنظمة البرلمانيَّة (برغم من إخفاق بعضها)؛ المؤسَّسات المتوازية الناشئة من الجذر الواحد، وبخاصة الأفكار والمشاعر في الطائفة الأنغليكانيَّة؛ المعاملات المصرفيَّة والشركات التجاريَّة؛ الأندية الثقافيَّة-الاجتماعيَّة؛ لعبتي الكريكيت والرُكبي؛ وأربع عشر مملكة. وفي ذلك الرَّدح من الزمان رفض قادة الاستقلال السُّودانيُّون الانضمام إلى هذه المنظومة التي يرأسها المستعمر السابق باعتبارها ربيبة الاستعمار الجديد. حين نهين أهميَّة التقارب مع الدول الأخرى في سبيل المصالح العليا للبلاد سندفع الثمن غالياً، أو هكذا كتب جوزيف ناي في كتابه “السلطة الناعمة” (Soft Power)، الصادر العام 2004م. فقد مثَّلت الملكة إليزابيث الثانية (1926-2022م) دوماً عنصر تماسك منظمة الكومنويلث، وقد استطاعت بفضل حنكتها أن تقنع أولئك الذين فكَّروا في إخراج بلدانهم من المنظمة في البقاء في حظيرتها. ففي العام 1961م سحرت أو جذبت الرئيس الغاني كوامي نكروما حين رقصت معه في قاعة الرَّقص، وذلك حين بدا للعيان أنَّ نكروما على وشك إخراج غانا من المنظمة. وبعد الرقصة الشهيرة إيَّاها، ولا سيما أنَّ الملكة كانت في ريعان شبابها، عدَّلت غانا عن رأيها، وبقيت في المنظمة.
مهما يكن من أمر، فقد أدرك عددٌ من الدول أهميَّة منظمة الكومونويلث، وأخذ بعض هذه الدول يصطف في الانضمام إليها، وهي تلك الدول التي لم تكن في السابق ضمن المستعمرات البريطانيَّة؛ نذكر منها رواندا التي كانت مستعمرة بلجيكيَّة، حيث أمست الآن عضواً في المنظمة بقرار من بريطانيا، وفي ذلك تكفيراً للذنب الجمعي الغربي في الإخفاق في وقف الإبادة الجماعيَّة التي وقعت فيها العام 1994م. هناك كذلك جمهوريَّة الجابون، التي كانت في الماضي مستعمرة فرنسيَّة، وها هي الآن على رأس القائمة لتصبح العضو الرقم 55 في المنظمة، ثمَّ هناك توجو، وهي إحدى الدول الفرنكوفونيَّة، وها هي الأخرى من المتوقع أن تنضم إلى المنظمة. علاوة على رواندا وموزمبيق (المستعمرة البرتغالية السابقة)، سوف تلتحق بالمنظمة أربع دول لم يكن لها عهد من قبل بالإمبراطوريَّة البريطانيَّة التي لم تكن الشمس تغيب عنها.
السؤال الذي يطرح نفسه بشيء من الإلحاح شديد هو هل تستطيع دول المنظمة، وبخاصة في إفريقيا وآسيا، الالتزام بقيم المنظمة؟ ثمَّ ما هي هذه القيم، إذاً؟ لقد أقرَّ مؤتمر قمة الكومنويلث الذي عُقد في العاصمة الزيمبابويَّة هراري، وامتدَّ حتى العام 2013م، قيم المنظمة، التي تتمثَّل في الالتزام بالديمقراطيَّة منهجاً وممارسة، واحترام حقوق الإنسان، وسيادة السَّلام، وصيانة الأمن، وتقبُّل الآخر، وحريَّة التعبير، وتطبيق حكم القانون، والمساواة والعدالة في الجندر (النوع)، وهي في واقع الأمر قيم نبيلة.
في خاتمة المطاف نستطيع أن نطرح السؤال التالي: ماذا أورثاه من مآلات من جيل الاستقلال منذ البدايات؟ لقد ورثنا إرثاً تقيلاً ينوء به كاهل أهل السُّودان كافة، حيث يتمثَّل في تغييب أهل الجنوب ومناطق السُّودان الأخرى المهمَّشة من التمثيل في المفاوضات في سبيل الاستقلال من ضمن وفود الأحزاب السياسية التي سافرت إلى مصر، مع وجود حزب جنوبي عريق كان يمثِّل مصالح أهل الجنوب هو الحزب الليبرالي. وكذلك ورثنا قضيَّة الوحدة الوطنيَّة الشائكة، التي بدأت بالطلب الملحاح من قبل أهل الجنوب في السماح لهم بممارسة الفيدراليَّة نظاماً لحكم الإقليم الجنوبي، وهرولة آباء الاستقلال إلى الانضمام إلى جامعة الدولة العربيَّة نائياً بالسُّودان عن منظمة الوحدة الإفريقيَّة (الاتحاد الإفريقي حاليَّاً)، حتى تعقَّدت مسألة الهُويَّة السُّودانيَّة، واستبقاء رواسب الاسترقاق التي تمظهرت في العنصريَّة وأخواتها، واستقدام قضيَّة الدستور الإسلامي في المعترك السياسي، ومنذئذٍ طفق الداعون له يتزمَّتون حتى تمَّ إعلان قوانين أيلول (سبتمبر) العام 1983م، وحينئذٍ أجَّجت هذه القوانين، التي أسمَّوها قوانين الشريعة الإسلاميَّة، مشاعر الهُويَّة والمواطنة، وأزَّمت أمر الحرب، وباعدت فرص السَّلام المستدام، وزادت وتيرة الاستقطاب الديني والثقافي والإثني، ومن ثمَّ عمَّقت فجوة التنمية غير المتوازية في البلاد.