جامعاتنا في عصر الذكاء الاصطناعي، والروبوت، والميتافيرس، والجات جي تي بي

0 91
كتب: صلاح شعيب
.
القفزات العلمية الهائلة في عالم اليوم تكاد تدوخ الدماغ نفسه. فالعالم الذي كنا قد نشأنا عليه حيث كان يُحدث بين عقد وآخر تحولاً مقيماً في نظريات، ومنتجات العلوم، انتهى اليوم إلى عالم يعيد ترتيب العلم عبر دراسات جديدة تقلب معتقداتنا المعرفية عن الكون رأسا ًعلى عقب. والسبب في كل هذا يعود إلى التقدم التكنلوجي غير المسبوق من جهة، ونشوء سوق تجاري موازية له تفوق رساميله بالترليونات من الدولار، واليورو، والين، من الجهة الأخرى.
إن كل ما يفعله ضجيجنا السياسي الإنساني الآن هو أنه يغطي على معرفة ثورات علمية هائلة في الأكاديميات العريقة في هارفاد، وتورنتو، وطوكيو، وبكين، وأكسفورد، وكذلك بقية المؤسسات العلمية العالمية الأخرى. فدورياتها العلمية تقودنا إلى الكشف عن تجارب الروبوتات الحديثة التي حققت نتائج مذهلة في المجال الطبي، والعسكري، والهندسي، والخدماتي، إلى طرائف اكتشافات عالم الميتافيرس، إلى ثورة الاتصال التي جلبتها ال جات جي تي بي، إلى تجارب ناسا الفضائية في اكتشاف كهوف الماء المثلج في القمر، ووجود الأوكسجين بوفرة في المريخ ما قد يساعد على قيام رحلات سياحية في المستقبل القريب للكوكب.
وتفيدنا الدوريات المحكمة هذي كذلك بالانشطار والاندماج النوويين لخلق طاقة نظيفة بديلة، وإنتاج روبوت أصغر من رأس نملة ليجري عمليات جراحية في شرايين القلب، والنتائج الكاسحة لمصنفات الذكاء الاصطناعي التي ثورت مختلف مجالات الحياة، إلى علاج السرطان بخلاياه نفسها، والتي تنتظر التجارب السريرية. وهذا الاكتشاف كان موضوع حواري الإذاعي الأسبوعي الماضي مع البروفيسير المسلم خالد شاه في جامعة هارفارد، والذي حقق بحثه نتائج مذهلة في الحقل لكون منهجه العلاجي يتمثل في توظيف الخلايا السرطانية التي أنتجها السرطان نفسه، وداوني بالتي هي الداء. يحدث التقدم المتواصل هذا في “العلوم الطبيعية” بينما تتراجع “العلوم الاجتماعية” في خلق الرفاه للبشر، وقيادتهم من المجتمع الحضاري إلى المدني الذي فيه يؤاخي الإنسان الإنسان. فالمدنية – اليوتوبيا، أو الطوباوية – التي هي شغل الأيديولوجيات العنيفة والمسالمة الحالمة معاً ما تزال مرجعياتها، ومراجعاتها لنتائج أفضل أثراً بعد عين. ذلك في ظل حمى الحرب الشرسة السيبرانية التي كان آخرها قصة المنطاد الصيني. ومعظمكم يعرف كيف أن الولايات المتحدة قد أسقطته في المحيط بعد دخول مجالها الجوي بلا استئذان. هذا التسريع الجديد في علوم الطبيعة (Science) مع خيبة علوم الاجتماع (Humanties) تماشى، أو تزامن، مع انهزام فكر المحافظين الجدد.
-٢-
أذكر أني التحقت بجامعة جورج ميسون التي كان يحاضر فيها فرانسيس فوكوياما في مجال تحليل، وفض، النزاعات، وفي نيتي محاورته. ولكني لم أتمكن لكونه ذهب إلى جون هابكينز العريقة التي منحته أكثر ليحاضر في العلوم السياسية. وهناك قد تراجع فوكوياما عن أطروحة مؤلفه الشهير “نهاية التاريخ” المفترض انتصار الليبرالية الغربية. ربما رضى من الغنيمة بالإياب لأن النتائج المخيبة لآمال البشر من هذه الليبراليات التي تباهى بها الغرب لم تحل مشكل البطالة، وغلاء الأسعار، والتفاوت الطبقي، وخلق الاندماج الأوروبي لموجة الهجرات من عالم الجنوب، فوقاً عن استهانة السياسات العامة لهذه الحكومات الغربية بمشاكل البيئة الناجمة من الاستثمارات الثقيلة، وضف انزعاج نخبها ذات النزعة الأخلاقية من سرقة موارد العالم الثالث.
وربما اعتبر مؤلف نهاية التاريخ كذلك من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي جعلت من صامويل هنتغتون مؤلف “صراع الحضارات” نجماً بازغا، والذي ساعدت أطروحته في نهوض المحافظين الجدد آنذاك بقيادة بول وولفويتز، وإليوت أبرامز، وريتشارد بيرل، وبول بريمر، وديك تشيني. وهؤلاء كانوا من القائلين بوضع الترياق اللازم لهذا الصراع الحضاري بدءً بهزيمة ما سمي “حلف الشر” عبر خلق السلام العالمي بالقوة الاستباقية. وكانت البداية بالعراق ثم محاولة إيران ثم كوريا الشمالية.
حدث ذلك فيما كان اليسار الأميركي الذي بذل كبار منظريه أمثال ريتشارد وولف بحثاً عن ثمة سبيل لنقد الليبراليات الاقتصادية الجديدة لأجل وضع كابح فكري جديد للنزعة الاستثمارية الشبقة للحكومات التي غطت على سياسات ملهمة لترشيد الحكم قبل كل شيء. وفي العالم الثالث مثالاً نلاحظ الآن شبقاً في توظيف العلم الجيني في المحميات المزروعة، والتعدين الذي لا يراعي لبيئة نظيفة، ورهن الموانئ للأمن الجيواستراتيجي، وتراجع مال “الاستثمار المجتمعي” الذي كانت تضخه مثالاً مصانع إنتاجية ضخمة تسهم في خلق الوظائف للشباب، وتنمية مجتمعاته.
هذه التحولات الدولية في الإعلاء من الشأن الاستثماري الاقتصادي المهرول للربح الفاحش على حساب البيئة، والأخلاق الوضعية العامة، ومحاربة البطالة انعكست على المحاور الإقليمية، والتي بغير وكالتها للرساميل الطفيلية العالمية خلقت لها وكلاء محليين، أو عملاء بما للكلمة من حمولة تنبي بالخيانة الوطنية.
-٣-
هذا القفز العلمي برافعة التطور التكنلوجي يضعنا في الديمقراطيات العريقة أمام فداحة الواقع الحضاري للنخب العالمية الساعية لسلامة الكوكب. وعلى صعيد العالم الثالث تطرح علينا هذه الكثافة في التطور العلمي أسئلة ملحة حول غياب الوازع الأخلاقي في التقعيد النظري والتطبيقي للحكم الرشيد في بلداننا التي تصطرع فيها الهويات الوطنية، والإثنية، والجغرافية، أو ما يصطلح عليه علماء السياسات العامة بالحوكمة الشفافة لمقابلة ثقل وطأة الحال على شرائح مجتمعنا، خاصة الفقيرة.
فالنخب الناشطة مدنياً، وعسكرياً، لا تملك منذ مراحل الاستقلال الوطني برامج في خصوص تبني الديمقراطية كأساس للنهوض المجتمعي التي هي لازمة التقدم العلمي. فمصادر الثروة وحدها لا تخلق نقلة في هذا التقدم المنشود ما لم تُحدث مجتمعاتنا تسوية حضارية قائمة على معطيات حقيقتها الوجودية لخلق نظام التداول السلمي.
على صعيد جامعاتنا التي تجاوز إنشاؤها نصف قرن لا نجد أثراً لكليات العلوم السياسية، والزراعية، وحقول الأنثربولوجية، والسيوسيولوجي، والتاريخ، على أرض الواقع. فليست هناك حلول مشتقة من رصيد الدراسات الإنسانية لمعالجة التفاوت التنموي، والبشري الذي أورثنا الحروب، ولا نملك القدرة في الاستثمار في المصادر الاقتصادية، أو إيقاف هجرة العقول إلى العالم الحديث. ويبدو أن جامعاتنا الخالية من الإمكانيات العلمية عاجزة عن تجديد مناهجها العلمية، وتوفير البنيات المعملية التي تساعد في تفوق علمائها، رغم أن بعضاً من النبوغ العلمي في الغرب تقوده العقول المهاجرة من بلدان العالم الثالث.
وسط هذه الفداحة المجتمعية لعالمنا الثالث لا يبدو في المستقبل المنظور أننا سنخرج من دائرة التسوق المربحة لهذه المنتجات العلمية الجديدة. وعلى الجانب الآخر تظل جامعاتنا في وادٍ، معزولة عن حركة العلم، وعلماؤها منفصمون عن حركة المجتمع، وضجيجنا السياسي في وادٍ آخر..زاده الاستعلاء بجهله، والتكسب بنظرية المؤامرة، وانتحال اسم الله.
.
No photo description available.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.