مصر والسودان (حتة واحدة) أم (ستمائة حتة)
كتب: فتحي الضَّو
.
هذه ليست المرة الأولى التي استخدم فيها هذا العنوان الساخر، بل أزعم أنني لست وحدي. فقد صار التعبير شائعاً يتداوله كثير من الكُتاب كيفما اتفق، بخاصة عندما تتعرض العلاقة الرسمية بين البلدين لمطبات هوائية مثلما هو حاصل الآن. ذلك على الرغم من وصف (الأزلية) الذي يُضفى عليها.. كما أن قصة المثل الشعبي نفسها باتت معروفة للناس. ولعل من كثرة ترديدها صارت تُفهم في ذات سياقها الهزلي، أي بعيداً عن موشحات التجريح والإساءات والشتائم التي يتصيدها المتربصون هنا وهناك. ولذا ليس من أغراض هذا المقال الإجابة على تساؤل العنوان، بمعنى ما إذا كان البلدان (حتة واحدة) كما في حالات صفائهما أم (سُتمائة حتة) عندما يطوف عليهما طائف بعذاب واقع. لكن الذي يؤكده كاتب هذه السطور ضرورة حديث الوضوح والصراحة بعيداً عن النظرة العاطفية، طالما أن ديكتاتورية الجغرافيا تتحكم فيها بنهر النيل الذي يربط بين البلدين، مما يحتم على البلدين التعامل بواقعية وموضوعية وحكمة.
لكن على العكس تماماً تمر هذه العلاقة الآن بأسوأ حالاتها، لدرجة يصعب التنبؤ بمآلاتها في ظل الظروف المُعقدة التي يعيشانها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وذلك يعود لعاملين هامين: أُولاهما مُستجد وقد تمثل في نقل التوتر الباطني من الأُطر الرسمية إلى مسارات الدوائر الشعبية. حيث ازداد خطاب الكراهية الشعبوي وغرقت أوساطه في ما كان يُعد من قبل، رجساً من عمل الشيطان ينبغي اجتنابه. أما الأمر الثاني: فيشير إلى أن تسارع الأحداث ووصولها لذلك الوضع المُعقد لم يحدث بين عشية وضحاها وإنما جاء نتيجة تراكمات ظلَّت تتفاقم يوماً إثر يوم. ولكن عوضاً عن مواجهتها والعمل على حلحلتها، انتهج البلدان سياسة الهروب للأمام. وهو منهج عقيم دأبا عليه منذ الأزل الذي توصف به العلاقة ذاتها.
في تفسير ذلك، يعزي كثير من المراقبين السياسيين اختلال ميزان العلاقة إلى عدم استنادها على قاعدة المصالح المتبادلة بقدر سواء، لا غرو وأنها القاعدة الذهبية التي ترتكز عليها مبادئ العلاقات الدولية. تحت هذا المنظور ظلت مصر الرسمية تعتبر السودان محض حديقة خلفية لرفاهيتها، أو بالأحرى أرضاً مُهملة تسعى للاستفادة من مواردها. وفي الواقع ليست مصر وحدها التي تنفرد بهذه النظرة الاستعلائية، ففي ذلك ظلَّ يتنافس المُتنافسون سراً وعلانيةً. غير أن مصر الرسمية لم تكتف بما ربحت، بل أصبحت لا تجد حرجاً في وضع بصماتها عُنوةً على هوية الحكومات التي تصل لسدة السلطة، وبخاصة مساندة وتمكين الحكام العسكريين الديكتاتوريين عبر مختلف الحقب. ولعل من سوء حظ السودان أن هذه الأنظمة غطت أكثر من ثلثي حقبة ما بعد الاستقلال والمقدرة بنحو سبعة وستين عاماً، مما يجعل مصر متورطة ضمنياً في زعزعة الاستقرار في السودان والعمل على تشكيل خارطة الحكم فيه طبقاً لما تهوى وتشتهي.
وهنا يأتي السؤال التالي: ولماذا تسبح مصر الرسمية عكس التيار وتساند الأنظمة العسكرية الديكتاتورية التي رُزأُ بها السودان؟ لعل الإجابة المباشرة والمستندة على شواهد الواقع تنحصر بين سببين الأول: يذهب بعض المحللين السياسيين إلى أن مصر الرسمية لديها (فوبيا) من تأسيس نظام ديمقراطي في السودان يُحتمل أن يصير عابراً للحدود. أما السبب الثاني، فيشير إلى أن مصر الرسمية تعلم أن ما تطمح إليه وتبتغيه من السودان لن تناله إلا في وجود حكم عسكري تتبادل معه الرشى السياسية في تثبيت أركانه وترسيخ أقدامه في السلطة. ويضرب بعض المراقبين مثلاً بالتضحيات الجسام التي بذلها السودانيون في سبيل قيام السد العالي في الديكتاتورية الأولى، والصمت المريب على مصرنة مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد في فترة حكم الديكتاتورية الإسلاموية المُندحرة، هذا إلى جانب الاختلالات الهيكلية في ميزان المصالح الاقتصادية المُتبادلة بين البلدين راهناً.
من أجل تحقيق كل ذلك أضفت مصر الرسمية على العلاقة طابعاً أمنياً. مثلاً على غير ما هو معروف في الأعراف الدبلوماسية فالسفير الذي يُعين في السودان يُختار بالضرورة من جهاز المخابرات العامة. تلك الصورة غير الطبيعية أزاح عنها النقاب جزئياً الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتب الرئيس الراحل حسني مبارك لعدد من السنين. إذ قال في مذكراته المبثوثة في وسائل إعلامية، إن صديقه السفير السوداني إبراهيم طه أيوب حدثه عن مسألة تأذي السودانيين من ظاهرة تعيين سفراء لمصر في السودان من جهاز المخابرات العامة. وبدوره نقل الفقي المُلاحظة للرئيس مبارك قائلاً إن (إخوتنا السودانيين واخدين علينا في خاطرهم في أننا بنبعت ليهم سفير من جهاز المخابرات العامة بدلاً عن السلك الدبلوماسي) وبدوره صحح الرئيس الراحل الوضع، ولكن لمرة واحدة فقط بحسب الفقي، ثمَّ عادت بعدها (حليمة لسيرتها القديمة) كما يقول المثل الشعبي الشائع.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه مُجدداً: لماذا تصر مصر الرسمية على إدخال العلاقة في دهاليز الأجهزة الأمنية المظلمة بدلاً من تركها تنداح في رحاب العلنية والشفافية كسائر الدول؟ لعل الإجابة المباشرة تكمن فيما ذكرناه سابقاً، لكن الإجابة الأكثر عمقاً تحليلياً تقول إن منظومة صنع القرار في الدولة المصرية تنقسم إلى تيارين. الأول خافت وضعيف رغم أنه يُخضِّع الأمور لمعطيات الواقع فيما يخص العلاقة مع السودان. إذ يدعو إلى ضرورة التعامل بين البلدين بميزان العدلية إن عزَّت الندية. أما الثاني فهو التيار الخديوي الذي عبَّر عنه صدقي باشا في مفاوضات عام 1946م مع البريطانيين برئاسة وزير الدولة للشئون الخارجية أرنست بيفن وكانت بشأن تحقيق مصير السودان، حيث عاد بعدها من لندن إلى القاهرة وخاطب مستقبليه قائلاً (عدت إليكم والسودان في جيبي) وسميت الاتفاقية باسم مُعاهدة (صدقي – بيفن) والتي كانت تدشيناً لظهور التيار الخديوي وتمدده في دست الحكم.
بيد أنه من باب الانصاف نشير لنقطة تتكامل الأدوار، إذ قام هذا التيار الخديوي بصناعة تيار خديوي متحور من السودانيين الموالين لمصر، وصار يتعامل معهم كوكلاء أمينون على مصالحه داخل السودان، بل وذوي حظوة خارجه، مما حال دون ظهور قيادات كارزمية تكون مسؤولة عن مصالح شعبها وتقف بصلابة أمام التمدد الخديوي الأصل، ويتعامل بندية مع مصر الرسمية، لكن بالتدجين أصبح هذا التيار ملكي أكثر من الملك، ويعمل على المحافظة على النوع من الانقراض بالتناسل الذي ينافس (الأرانب) في تكاثرها. ولمزيد من التحوط أصبح هذا التيار محاط أيضاً بأشهر منتوج نشأ وترعرع في كنف الدولة المصرية منذ القدم وهو صناعة البيروقراطية وتصديرها للتيئيس والتخذيل والتخدير.
استناداً على الوقائع المذكورة أعلاها: ما الذي طرأ على العلاقات بين البلدين وأدى إلى التوتر الذي يظهر حيناً ويختفي في أحايين أخر؟ في الواقع كان التوتر قد بسط ألسنته نحو دوائر الشعبين مُبكراً. لكن الذي حدث تحديداً، كانت قد بدأت مؤشراته قبيل اندلاع ثورة ديسمبر التي كانت توحي بتغير محتمل في هيكل السلطة السودانية. كان ذلك يعني أن الظروف هيأت لمصر الرسمية فرصة تاريخية لإصلاح ما أفسده عطار الخديويين في الانحياز للديكتاتورية الإسلاموية كما فعلت مع كل الأنظمة المماثلة مثلما ذكرنا. لكن على العكس من ذلك كلما ازدادت فرص السقوط المحتمل زادت مصر الرسمية من (روشتاتها) للنظام الديكتاتوري الفاسد بهدف تجنيبه السقوط. كانت تلك جهود نشط فيها تيار الخديويين بحسبه (الراعي الرسمي) للعلاقة، وبقناعة أن أي تغيير سيحدث سوف يأتيه خراجه أين ما أمطر.. والغريب في الأمر استمرار ذات التقييم القاصر حتى بعد سقوط نظام الخرطوم، متجاهلاً التغييرات التاريخية التي أوجدتها الثورة على الواقع السوداني.
كأنما التاريخ يعيد ما حدث بالأمس. كانت منظمة الإيغاد قد طرحت مبادرتها الشهيرة في العام 1993م بين نظام الإسلامويين والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، حيث إن التجمع الوطني الديمقراطي كان طفلاً يحبو آنذاك..وقد رفضها النظام بدعوى علمانيتها وكان ذلك تدليساً لأنه آنذاك عقد العزم على انفصال الجنوب باعترافه سراً بحق تقرير المصير في فرانكفورت بين على الحاج ولام أكول في العام 1992م واستمر النظام يراوغ حول المبادرة إلى أن قبلها صاغراً في العام 1997م بعد أن زادت عزلته الدولية إثر اتهامه بالإرهاب في العام 1995م بعد تورطه في محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك. وبعدها انطلقت المبادرة إلى أن وصلت محطة ماشوكس في العام 2002م وواصلت حتى مُستقرها في نيفاشا تمهيداً للاستفتاء الذي قاد للانفصال. خلال تلك التطورات استيقظ التيار الخديوي من نومه وبدأ رحلة التخبط بابتداع ما اسماه (المبادرة المصرية الليبية المشتركة) تماماً مثل ما فعلت الآن في شرم الشيخ مع لفيف من العاطلين عن العمل.
ولكن كيف انتقل التوتر إلى ساحات القواعد الشعبية؟ أولاً يجب الاعتراف بأن تلك التراكمات أفرزت غبناً دفيناً انعكس فيما هو متوارث في رسم صورة نمطية ساخرة يتقاذفها الطرفان كلما اشتد وطيس المعارك الكلامية، زاد عليها أن البلدين تزامن مرورهما بظروف اقتصادية صعبة، ظنها بعض المصريين الشعبويين أنها بسبب الهجرة السودانية المكثفة نحو مصر، في حين يرى السودانيون الذين يشكون ضنكاً في العيش وعسرة في الحياة ثروات بلادهم وهي تُنقل بأساطيل من الشاحنات إلى مصر، ظلت تتقاطر وهي تحمل ما غلا ثمنه وخفَّ وزنه، عندئذٍ كظموا غيظهم وبلعوا غبنهم، لكن ما زاد الطين بلَّة أن بعض أصحاب الحناجر الضخمة من إعلاميين معروفين استغلوا منابر بعينها وتبعهم في ذلك بعض الرجرجة والدهماء ينثرون في الفضاءات تعابير العنصرية والازدراء والكراهية.
صفوة القول لن تستقيم العلاقة المصرية السودانية إلا عبر سلسلة من الاستحقاقات والمطلوبات على المستويين الرسمي والشعبي. على صعيد المستوى الأول ينبغي التوافق على ميثاق يحرم التدخل السافر في الشئون الداخلية لكل بلد. وخاصة في المسائل السياسية. كما يحتوي هذا الميثاق على ضرورة حسم قضية المثلث باللجوء إلى المنابر الدولية المختصة بحل النزاعات، وإلا سيظل المثلث شوكة في خاصرة العلاقة، وسيكون واهماً من يظن أن الاستحواذ على المثلث يتم عن طريق فرض سياسة الأمر الواقع، ويمكن للميثاق أن يسهم في نهوض العلاقة على أسس المصالح المتبادلة بإقامة مشاريع حدودية مشتركة قائمة على العدالة. ومن خلال الميثاق ينبغي أن يطرح كل طرف ويحدد ما يريده من الآخر حذوك الكتف بالكتف.. أما على المستوى الشعبي فالمطلوبات أكثر ويضيق معها المجال غير أن أهم ما يمكن تأكيده هو تغيير النظرة النمطية وتحجيم خطاب الكراهية من خلال الوسائل الإعلامية المؤثرة. هذا إن شاء الطرفان العيش في سلام، لا سيَّما أن قرائن الأحوال تدل على أن البلدين مُقبلان على تغييرات دراماتيكية حاسمة.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر.