إبراهيم موسى أبا.. بايونير الأغنية الكردفانية
كتب: صلاح شعيب
.
إبراهيم موسى أبا هو البايونير المميز في الأغنية الكردفانية الذي منحها الصيت فخلدت اسمه في السجل الفني السوداني. بتلك الريادة رسم أبا طريقاً مفروشاً بالورود لزملائه حتى يضيفوا لهذه التجربة التي كشفت عن تعدد مساقاتنا النغمية، والإيقاعية، والذوقية. وعلى الصعيد نفسه عرف السودانيين بسحر بيئة كردفان، وجمال شعرها الذي صاغه عبر عبر أنغامه الشجية التي شكلت إضافة للتثاقف الفني القومي.
اشتغل أبا في بدء مسيرته الفنية على استنباط المعالجات الموسيقية للأغاني التراثية في مدن، وقرى، المنطقة التي تجول فيها فشذبها، وقدمها بصوته الفريد الذي يصنفه بعض الموسيقيين بأنه يتراوح في مدى التينور.
برز في مستهل الستينات مغنياً يشار إليه بالبنان عبر فرقة فنون كردفان في الأبيض، وعندما قدم إلى الخرطوم قدم عبر الإذاعة أعماله التي كانت جديدة على المستمعين الذين تشبعوا بالمقامات الخماسية فيما كانت أنغامه التي تحتوى على مقامات سباعية بإيقاعاتها الراقصة لم تكن مألوفة وسط الافتتان بالتم تم الذي كان وقتها قد انتشر بكثافة حتى إنه لم يتخلف ملحن، أو فنان، إزاء النهل من بئره.
وهكذا شيئاً فشيئاً أصبحت أعمال أبا تنتشر عبر برنامج ربوع السودان، وسرعان ما صار صوته ينسرب إلى مساحات البرنامج العام فانطلق مغرداً بكلمات جديدة، وألحان لموسيقاريين راسخين في المشهد الغنائي. وبهذا المستوى عرف بقدرة إجادته لهذه الأعمال التي منحت له من ملحنين أمثال عبد الماجد خليفة التي قدم له التوب للشاعر المجيد بشرى سليمان.
في كتابه “من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان- نجوم الغناء والطرب” يقول الأستاذ معاوية حسن يس ان إبراهيم محمد موسى – الذي اشتهر بلقب “أبّا” – في مدينة الأبيض في عام 1945. وينتمي إلى قبيلة البقارة. وكانت والدته تناديه “أبّا” مثلما تنادي المرأة البقارية أباها. أثناء دراسته في المرحلة الأولية (الإبتدائية)، لفت الآخرين باتقانه حفظ وأداء الأناشيد والمحفوظات. وعززت اتجاهه نحو الفن الغنائي منذ الصغر معايشته التمارين الموسيقية التي كان شقيقه المطرب المحلي حمزة موسى يقيمها في المنزل، بمشاركة أبرز المطربين والعازفين في عروس الرمال عاصمة كردفان.
بعد إكماله المرحلة الدراسية الأولية، اتجه إبراهيم نحو الصناعات الحرفية، فتعلم الحدادة في مدينة كوستي التي أقام فيها منذ عامه الخامس حتى عودته إلى الأبيض للزواج. لكنه ما لبث أن هجرها ليتعلم حياكة الثياب النسائية، بعدما وجد عرضاً لا يُقاوم من صديق له تعهد تلقينه أسرار هذه المهنة إذا وافق على تعليمه العزف على العود. وكان يجوب مدن كردفان بحثاً عن الرزق. وهكذا كان حِرفياً معروفاً في أسواق النهود وأبو زبد والمجلد وبابنوسة.
ويضيف الأستاذ معاوية يس أنه “لدى عودة أبا إلى الأبيض من إحدى تلك الجولات العملية “وجد منزل الأسرة منهاراً بفعل أمطار غزيرة وسيل داهم، فاضطر إلى بيع ماكينة الخياطة التي يسترزق منها. غادر الأبيض إلى الخرطوم حيث أقام مع شقيقته. وحاول أن يعمل حائكاً للثياب الحريمي في سوقي الديوم وكوبر، غير أن المسألة لم تكن مربحة، ربما لتعود سكان العاصمة على الملبوسات الجاهزة. فلجأ إلى تعلم مهنة إصلاح الساعات في السوق العربي بالخرطوم. ولما أكمل مرانه عليها، انتقل إلى سوق ليبيا في أم درمان. لكنه اضطر إلى بيع محله الصغير هناك إثر إصابته بمرض في عينيه.”
-٢-
المحطات الغنائية الأخرى لأبا تنوعت مواضيعها بين العاطفي، والوطني. ومع ذلك لم تشفع له هذه المساهمة المميزة في عونه حينما واجهته محنة المرض.
ففي منتصف التسعينات شاهدت أبا مرة في اتحاد الفنانين يمشي مع الفنان عبد القادر سالم متكئاً على كتفه، وقد تمكن منه المرض، ويعاني من ضعف البصر، دون أن تعينه الدولة التي فشلت في تجسيد التعدد الثقافي مثلما فعل العصامي الذي عمل حداداً، ثم ترزياً، وكذلك ساعاتياً، في صباه ثم التحق جندياً بسلاح الموسيقى. بخلاف ذلك ظلت لونيته الغنائية محرومة من الظهور عبر برامج الإذاعة والتلفزيون والتي كان يقدمونها يتجاهلونه بينما يقدمون فنانين اقل مستوى من حيث قامة الصوت وفرادة الأعمال والتي لا بد أنها تستهوي مكونا جغرافياً متسعاً ضمن خارطة البلاد. بل إن غناء أبا يبرز للغناء السوداني تنوعه الثري. ولكن يبدو أن التحيز المناطقي كان قد تمكن في عقل البرامجيين حيث لم يروا قيمة تذكر لغناء آخر لا يتساوق مع نهج الأغنية الامدرمانية، وبهذا لم يظهروا ضرورة للاستلهام من حقيقة التعدد الثقافي في بلاد يلسن أهلها بأكثر من لهجة عربية، ناهيك عن لغات القوميات السودانية الثرية، والتي ما تزال أجهزتنا الإعلامية لا تعترف لها بالإبداع الغنائي.
الأغنية الكردفانية – كما جرى المصطلح – ساهمت بقدر كبير في تأكيد خصوصية السودان من جهة وخصوصية تركيباته المجتمعية من جهة أخرى. فالسوداني الحديث هو نتاج تصاهرات داخلية وخارجية شكلت نسيجه الغنائي. فموسى أبا هو نتاج التداخل القبلي الكثيف في غرب السودان عموماً، وكردفان خصوصا.
في حديث مع الموسيقار د. الماحي سليمان ضمن تحليله لهذا التداخل النغمي في الحزام السوداني الذي خرج منه فنان قال لي إن “أبا واحد من أهم الأسماء في الأغنية الكردفانية مع مجموعة جايلوه، وأمام هذا المستودع الضخم لغناء دارفور وكردفان الذي ادى فيه أبا دورا كبيرا فإن هناك إمكانية لتطوير تجاربه عن طريق الاستفادة من ما توصلت اليه الموسيقى الشرقية تحت مسمى”الحريات الأربعة” في الموسيقى الحديثة التي تمثلت في الارتجال، والتنويع، وتعدد الإيقاع، والتطريب، للموسيقى الشرقية.. وقد ساد هذا الاتجاه حتى أصبح نمطاً في أنحاء العالم يعرف بموسيقى البوب، وذلك في زمان تراجعت فيه الأطراف الموسيقية الكلاسيكية والأوركسترات، والكونسيتروهات التي تستمر لأربعين دقيقة.. لأنه ماعاد هناك زمن وافر للمتلقي في زمن العولمة.. هذا الكنز الموسيقي الضخم في دارفور، وكردفان، يحتاج من فناني الإقليمين إلى تطويره بهذا المستوى خصوصا أنه يرتبط بعضه بالمقامات السباعية، والتي جلبتها جماعات عربية بعد خروجها من الأندلس، وتسللها من ليبيا إلى دارفور وكردفان حيث نقلوا الموشحات، والطقطوقة ..ولذلك جاء أبا من هذا الخلفية مع زملائه فنقلوا الموسيقى الشعبية من إطارها الفطري التراكمي إلى الاطار التقليدي ثم إلى الإطار الفني التفاعلي الحديث، كما هو ملاحظ في أغنية امدرمان.. والإطار الأخير يقبل أشكال الاضافة بناءً على مفهوم الحريات الأربعة.. إبراهيم موسى كان يتمتع بثقافة، وطاقة، موسيقية متسعة جداً وحتى الآن أعماله راسخة في وجدان الناس وإن لم يجد حظه الكبير في الانتشار لأن العمر لم يمتد به، وأتمنى أن يستمر مبدعو غرب السودان في هذا الاتجاه الموسيقي الحداثي الذي كسح العالم مدفوعاً بالميديا الجديدة في عالم متحرك سريع الإيقاع”.
-٣-
مع موهبته وطاقته الموسيقية الكبيرة التي أشار إليها د. الماحي سليمان لم يتهيأ للجندي إبراهيم موسى أبا المناخ الملائم الذي يجعله يضاعف مجهوداته باستمرار رغم التحاقه بمراكز موسيقية وسلاح الموسيقى.
ففي حديث مع الموسيقار يوسف الموصلي قال لي: “التقيت بأبا لأول مرة في مركز شباب السجانة ثم غنينا في مجموعة عبد الماجد خليفة التي كانت تقدم أغنيات في فترة مايو.. إبراهيم إن لم يكن أميز الفنانين الذين أتوا من غرب السودان – أو أكثرهم تميزا – فهو من كبار المتميزين ..صوته متفرد لا يشبه أحداً..عندما تسمع “عيني عليك باردة” تحس أنك أمام فنان متفرد، ومستقل، وصاحب شخصية لا يشق لها غبار.. قدم المردوم، والجراري، وبقية إيقاعاته، بشكل مخالف للآخرين.. كشخصية لا تملك إلا أن تكن له كل الاحترام ..هو زول سوداني حقيقي، ولو هناك شخص يمكنه تجسيد الوحدة بين جميع أطراف السودان فمن الممكن اختيار إبراهيم موسى أبا لهذا الغرض..الموت اختطفه مبكراً، ولكنه ترك بصمة نادرة كبيرة، ونادرة ..هناك فنانون عملوا في المشهد الغنائي فترة طويلة ولكن ما تركوا إبداعاً مثلما فعل أبا..”
رغم أن تجربة الأغنية الكردفانية التي ذاعت على المستوى القومي قد تجاوزت نصف قرن، وكان لإبراهيم موسى أبا دور كبير في التعريف بها إلا أن الأصوات الغنائية التي أتت بعد الرباعي المتفرد كثيراً أبا، وسالم، وصديق عباس، وعبد الرحمن عبد الله، لم تكن بذات القوة، والعمق، والتأثير. وينطبق الغياب الإبداعي على الأصوات الشعرية أيضاً فقد كان وجود الأساتذة فضيلي جماع، وعبدالله الكاظم، ومحمد عبدالله أبكر، ومحمد حامد آدم، ومحمد مريخة، كان له أثر كبير في رفد تجربة عبد القادر سالم، وبقية الفنانين الآخرين. على أن كردفان لم تقتصر مساهمتها في نشر المقامات السباعية فقط، فقد قدمت فنانين ملحنين آخرين أمثال جمعة جابر، وصالح الضي، وعبدالله الكردفانية، وخليل إسماعيل، وأم بلينة السنوسي، وفاطمة أحمد، وزينب خليفة، وحواء الطقطاقة، والعميري، وهاشم بابنوسة، وعمر بانقا، ويوسف الدقيل، وهناك عدد لا يحصى من الفنانين، والعازفين، والشعراء. وقد ركز هولاء المبدعون على الالتزام بشروط المقام الخماسي، وكانوا إضافة كبيرة للأغنية السودانية.
قصة الفنان إبراهيم موسى أبا بما فيها من إشراقات قدمها بكثير من الرغبة لعكس التنوع في بلادنا سوى أن الإحباطات المرتبطة بها من إهمال، وعدم إنصاف، تمثل واحدة من قصص العلاقة بين الفنان والدولة، إذ يقدم كل عصارة فنه. ولكنه لا يجد عند الحاجة أدنى الرعاية وليس أمام كثير من الفنانين إلا التسول لإيجاد من يدفع لهم روشتة الدواء، وتلك مأساة ألمت بكثير من المبدعين، ومع ذلك توجد وزارة للثقافة، والإعلام
.