الروايات السودانية الجديدة.. من الذي يقرأها، أو ينتقدها؟

0 44

كتب: صلاح شعيب

.

هناك مجهودات مثابرة للروائيين السودانيين من أجل الإبداع بدرجة تضمر تجاوز صيت الطيب صالح، أو إبراهيم إسحق، وهما من أكثر الذين لاقوا حضوراً معتبراً في هذا المجال لنصف قرن تقريباً. هذه المهمة الصعبة لروائيينا أثقل من مهمة شعرائنا الذين استطاع عدد منهم الوصول إلى المحلية، والإقليمية. فمعظم السودانيين غير المهتمين بمجال الأدب، يعرفون في مجال الرواية الطيب صالح. ولكنهم يعرفون في مجال الشعر الفيتوري، وعبدالله الطيب، ومصطفى سند، ومحيي الدين فارس، وجيلي عبد الرحمن، وصديق مدثر، والحسين الحسن، وتاج السر الحسن، وفراج الطيب، ومحمد المكي إبراهيم. ليس لأن الرواية فن جديد لقراء العربية في مقابل قِدم الشعر، وإنما لسهولة وصول إنتاج الشاعر للمتلقي عبر المقررات المدرسية السودانية، والدواوين، والمنابر الشعرية، والغناء. فحظ الطيب صالح أن شهرته في الخارج فرضت نفسها على بلاده بينما كان حظ مجايليه تعيساً في الوصول إلى دور النشر، ونيل الاعتراف عبر مركزية الثقافة العربية التي تؤول لنقادها سلطة في إظهار المميزين في كتابة الرواية، وكذا الشعر، والنقد، إلخ.

الظروف التي أتيحت للجيل الرائد من الروائيين كانت أفضل رغم تنامي الوعي عند الروائيين الجدد. فالقراءة الجادة كانت المنفذ الوحيد للمواطنين لزيادة معرفتهم، رغم أن مصادرها لم تكن متعددة بهذا المستوى الذي نعايشه في عصرنا الحاضر. إذ غدا من السهل الحصول على عناوين لملايين الكتب، فضلاً عن المقالات ذات الصبغة الأدبية. وحتى قبل عشرين عاماً من الآن كانت وسائط المجلات، والصحف، والكتب الثقافية، تملك سلطتها في حصر اهتمامات القراء في مدارها، ولكن هذه الوسائط التقليدية مهددة بالتلاشي بعد تحول أنظمتها في جوف الإنترنت.

نتذكر أيضاً أن المدارس حتى الابتدائية كانت تملك آخر حصة مكتبة ليوم الخميس مخصصة للقراءة. وعبرها تمكنا من قراءة العديد من الروايات بجانب الكتب، حيث يساهم كل طالب بكتاب، ما يعني أنك تستطيع أن تقرأ عشرين رواية بالتبادل مع زملائك، ومثلها من المجلات، والكتب. لا أدري أن كان ذلك الطقس القرائي ما يزال هو الذي يسم آخر حصص الخميس حتى نهاية العام الدراسي. ولكن أزعم أن قابلية هذا الجيل لقراءة محتويات الوسائط التقليدية في المحك إن لم نقل انعدامها بسبب إدمانه للإنترنت الذي جعله متسرعاً، غير صبور على طول أمد القراءة.

-٢-

في ذلك المناخ المدرسي، وعند الأندية، والمراكز الثقافية، وعبر الاختيارات الحرة لمنتجات دور النشر الحكومية، والخاصة، قرأ جيلنا معظم الروايات السودانية، والعربية، والأوروبية المترجمة، ولا ننسى أن الملاحق الثقافية أيضاً ساهمت بنشر فصول من الروايات، والقصص، ونقدها كذلك. وعمق ذلك الإنتاج الروائي من معرفتنا برموز المجال، واتجاهاتهم، ومواضيعهم، وأساليبهم. ولا ننسى أن الإذاعة، والتلفزيون، كانتا تهتمان أحياناً برموز الرواية، وأخبارها، ويقوم بعض البرامجيين بإجراء حوارات مع الروائيين.

خلافاً لواقع الإنتاج الروائي حتى السبعينات، والثمانينات، صدرت في العقدين المنصرمين أعداد مهولة من عناوين الروايات التي فازت بجوائز، وأخرى لم تفز. كذلك صدرت روايات لم يرد أصحابها التنافس بها عبر المراكز المحلية، أو الإقليمية، أو القارية، أو الدولية. ولعلنا هنا نثمن الدور الكبير الذي يقوم به مركز عبد الكريم ميرغني في أمدرمان، والذي بخلاف دوره في تسهيل النشر فقد خصص جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي ساهمت في تشجيع الروائيين السودانيين وغير السودانيين. وللأسف أن وزارة الثقافة والإعلام لم تقم بأي دور لدعم المركز، أو تفعيل مؤسساتها الثقافية التي أولى أولوياتها الاهتمام بنشر الرواية، والشعر وسائر المنصات الإبداعية الأخرى.

بطبيعة الحال تمثل هذه القفزة في النشر الروائي فرصة كبيرة لأدبائنا لإظهار قدراتهم الفنية، ومعالجة قضايا واقعهم، أو الواقع الإنساني إجمالاً، والتاكيد بأن الطيب صالح لم يكن السوداني الأوحد المميز في المجال. وبهذا الطموح حصل عدد من روائيينا على جوائز إقليمية، ودولية، وتُرجمت أعمالهم إلى عدد كبير من اللغات، فضلاً عن التعريف بها نقدياً.

برغم كل هذا العطاء تواجه الروايات السودانية الجديدة المكتوبة بالعربية، ولغات أخرى، بمعضلتين. الأولى تتمثل في عدم انتشارها على المستوى القاعدي لتصل إلى المواطنين جميعهم المهتمين بزيادة وعيهم في ظل غياب دور التوزيع، وغلاء المطبوع المتزامن مع الظروف الاقتصادية الحرجة، وضف تراجع تأثير الكتاب نفسه. أما المعضلة الثانية فهي غياب التناول النقدي لهذه الأعمال الكثيفة بحسب أن النقد هي الساق الثانية للإبداع كما يقولون. ونحن نعرف الآن أن عدد النقاد قليل للغاية. والدليل أنه مع صدور أكثر من مئتي رواية ربما لم يصدر كتاب نقدي واحد يحتوي على فصول في النقد الروائي. فالنقاد هم الذين يعرفون بأهمية الرواية قدحاً، أو مدحاً، وتعريف القراء بها ما يدعو الكتاب للاستفادة من هذا النقد، ومواصلة الإنتاج. ذلك على اعتبار أن الناقد بخبرته التراكمية في المجال أقدر على التقييم، وهو نفسه الذي يتم اختياره في لجان التحكيم لفرز الروايات الجيدة، ثم التقرير بشأن صدارة هذه، أو تلك.

-٣-

كان لوجود المجلات الثقافية، والملفات الثقافية، دور كبير في إثراء حركة النقد الثقافي والأدبي، وكثيراً ما يعرفنا النقاد بمميزات الروايات من خلال قراءتها نقدياً. ولكن مع تراجع تأثير هذه الوسائط التقليدية لم تنفتح سوق للنقد الأدبي حتى الآن في الإنترنت، ولم يشا أولئك النقاد المعروفون بمواصلة مهامهم عبر الإنترنت بذات الطاقة. وقد لاحظنا أن بوستات المجاملة في وسائط التواصل الاجتماعي هي السمة الأبرز التي يواجهها الروائيين الجدد، والتي لا تغني عن أهمية وجود دراسات نقدية لأعمالهم.

أتذكر أنني شرعت في النصف الثاني من الثمانينات في عمل ملف تحقيقي عن غياب النقد الأدبي، وحاورت الأساتذة فضيلي جماع، وفراج الطيب، ومصطفى سند، وعيسى الحلو، وسامي سالم، ومحيي الدين فارس، ومجذوب عيدروس، وآخرين، وقد توصلت حينها إلا أن النقد نفسه يواجه أزمات كثيرة تتعلق بايدلوجيته، وانحيازاته، ومجاملاته، وشللياته، وشخصانيته، إلا من رحم ربي. بمعنى أن المعايير النقدية غير منضبطة، أو تفتقد الشفافية في تقييم الأدب من حيث هو أدب، مثلما أن خلفيات الناقد الأيديولوجية اليسارية مثلاً تمنعه من إعلاء قيمة رواية جيدة لإسلاموي مثلًا، أو العكس. ومع ذلك يرى آخرون أن الرواية نفسها أدلوجة ما فتئت الكاتبة تطرح موقفاً من الحياة، وعليه لا مشاحة في نقدها ايديولوجياً.

التحدي الأعظم هو أن يصل الكاتب – أي كاتب – إلى أكبر قدر من الجماهير لأنهم هم المستهدفون بالرواية. فالكتابة ليست حالة ترفيهية تنتهي عند جمهور الطبقة المثقفة فحسب، وإنما هي أيضاً فعل لتثوير الوعي إذا كان الأديب يروم استنارة مجتمعه.

قرأت قبل أيام تقريراً أشار إلى أن الصحف توقفت من الوصول إلى الأقاليم بسبب تراجعها، والخسارات الهائلة التي منيت بها دور التوزيع، والنشر، والتي تقلصت بدورها نتيجة لوجود بدائل للصحف، فما بالك بالكتاب – الرواية.

كنت تمنيت لو أن تدخلت الوزارة المعنية لطباعة الروايات وتوزيعها للناس بسعر مدعوم كما فعلت سوزان مبارك، على أن تقوم وزارة التربية بتضمين الروايات المشهود لها بالجودة في المقررات الدراسية، والجامعية، لوصل الأجيال الناشئة بهذا الإبداع. ولكن يبدو أن هذا آخر شي يفكر فيه الموسيقي جراهام رغم أنه كان كاتباً جيداً، إذ نشرت له عدة مقالات ثقافية!. إلى ذلك ربما نحتاج إلى تدخل اليونسكو لشراء هذه الروايات من بعض أصحابها الراغبين لتحويلها إلى روايات اليكترونية مجانية حتى تنتشر وسط القراء المهتمين، أو تحويل هذا الروايات لأفلام. كل هذا يعد تحفيزاً لهؤلاء الأدباء لمضاعفة إنتاجهم، خصوصا أن كثيراً من الناشرين يلتهمون حقوق الروائيين التهاما جما.

.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.